الكاتبات والوحدة6: في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات ج2

1912

اقرأ الجزء الأول من: في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات

في حوارها مع الصحفي والكاتب محمد شعير، حكت إيمان مرسال عن رحلتها إلى إحدى المدن الساحلية منذ ما يقارب ربع قرن، وهي تحمل معها مسودات ديوانها “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، كانت في طريقها للانتحار في هذه الليلة الشتوية، لكنها في الطريق سألت نفسها: أليس مضحكًا أن تسافر فتاة كل هذه المسافات في ليلة شتوية باردة لتغرق في بحر؟ ثم فكرت أين ستترك مسودة الكتاب؟ على الرمل مثلاً؟

لم تجد إجابات لهذه الأسئلة، فقررت تأجيل قرارها، ثم ألغته تمامًا بعدما أصبحت أمًا. شغلتني هذه الحكاية منذ أن قرأت خبر قُرب نشر كتابها “في أثر عنايات الزيات”، تساءلت عن مدى أهمية كاتبة لم تنشر سوى رواية واحدة لإيمان مرسال. بالبحث اكتشفت أن هذه الكاتبة ماتت منتحرة في عمر السابعة والعشرين. فكرت؛ ربما كان انتحارها في هذه السن الصغيرة أمرًا مأساويًا، لكن لا بد أن في الأمر شيئًا آخر لم أستبنه. كنت على حق لكني لم أدرك ذلك إلا بعد أكثر من عام، عندما التهمت صفحات الكتاب أخيرًا في بضع ساعات.

رحلة استرداد الكتاب

رحلة استرداد نسختي من هذا الكتاب تصلح قصة قصيرة، كنت قد نسيته في مقهى في القاهرة بسبب انشغالي به! وعلى الرغم من اعتيادي السفر من وإلى القاهرة عدة مرات في الأسبوع، فإنني لم أتمكن من استرداده إلا بعد ثلاثة عشر يومًا، لم أتمكن حتى خلالها من السفر لشراء نسخة أخرى.

ذات صباح، استيقظت وهاجس الكتاب يسيطر على أفكاري، نهضت من السرير وارتديت ملابسي وخرجت من البيت، ركبت أول سيارة متجهة إلى القاهرة، ذهبت إلى المقهى واسترددت الكتاب وشنطة الكتب، ثم عرجت على المكتبة واشتريت نسخة ثانية وضعتها في حقيبة يدي، كأن الكتاب سيغافلني ويهرب مرة أخرى. تشبثت بالحقيبتين وكأنهما طفلتي، وعندما وصلت إلى البيت، أغلقت عليّ غرفتي وأنهيته في جلسة واحدة.

كانت الصورة تتضح وتتجمع، وشعرت بخفقان قلبي يزداد بشكل ينذر بنوبة فزع، عنايات الزيات أيضًا كانت أمًا، لكنها على عكس إيمان مرسال، لم تمنعها أمومتها لطفل في السابعة من الانتحار. في اعتقادي أن أمومتها كانت سببًا من ضمن الأسباب التي دفعتها لتناول علبة كاملة من مهدئ فيرونال مساء ليلة 3 يناير 1963، عشرون حبة وردية اللون بالتمام والكمال، لتموت في غرفتها وعلى سريرها.

كانت أسباب انتحارها أكبر من مجرد رفض رواية، يبدو أن عنايات شعرت وكأن العالم يحاصرها ويضيق الخناق عليها، كانت تعاني من اكتئاب مرضي، غربة عن العالم تتضح في أسئلتها حول الموت والوجود، لكنها في الفترة الأخيرة لم تجد أحدًا تشاركه تساؤلاتها: صديقتها مشغولة، روايتها لم تنشر، عائلتها تبدو في عالم آخر، الحب الغامض الذي عرفته بعد الطلاق لم تتمكن من البقاء معه بسبب أمومتها، الأمومة المشروخة أصلاً.

محاولة استكشاف العلاقة بين الأمومة والوحدة

ربما كان ابنها عباس هو أغلى من لديها، لكن التباعد بينهما كان يزداد كلما كبر، كان يميل أكثر لأبيه وزوجته، يناديهما بـ”بابا” و”ماما”، توقفت كثيرًا عند هذه النقطة وشعرت بسكين يخترق قلبي، تخيلتني مكانها، فقد الأبناء ليس مقتصرًا على الاختفاء أو الموت، الفقد المشاعري هو الأكثر قسوة، وهو كافٍ لدفع أيّ أم لليأس.

هناك الكثير من العبث في تداعيات الأحداث، وأغلب الظن هو أن هواجس الاكتئاب الذي صاحبها منذ الطفولة لم تكن محتملة في هذه الليلة بالذات، أفهم هذا الشعور بالرغبة في التلاشي، نفس الشعور الذي اعتراني بعد طلاقي بفترة وجيزة، وأنا واقفة في الشرفة، أتأمل حبال الغسيل المشدودة أمامي وأفكر هل ستعيق جسمي لو قفزت الآن إلى الشارع؟

كنت أفكر أنني لن أمس الأرض، بالتأكيد سأتلاشى قبل ذلك، وكان هذا كل ما أريده، بعدها بدقائق سمعت صوت طفلتي تقف خلفي، تحمل جيتارها اللعبة، تمرر يدها الصغيرة على أوتاره وتغني أغنية بكلمات غير مفهومة سوى كلمتين: أحبك وماما، كانت تضحك، تنظر لي وتضحك، في اليوم التالي انتظمت في جلسات العلاج النفسي.

لحظات التقاطع وتتبع الأثر

“كل شيء يبدأ من المقبرة”، جملة كتبتها عنايات الزيات في الأوراق القليلة التي تمكنت إيمان من الحصول عليها من مذكراتها، كانت عنايات تكتب تخطيطًا لرواية جديدة بدأت في الإعداد لها، لكنها ماتت قبل أن تكملها. الغريب أنها أيضًا الجملة التي تنطبق على هذا الكتاب، فكل شيء يبدأ من بحث إيمان عن مقبرة عنايات، لكنه لا ينتهي بالعثور عليها.

عثرت إيمان على مربع صغير في جريدة الأهرام في يناير 1967، كان إعلانًا عن إحياء ذكرى المرحومة عنايات الزيات، مع ذكر للمدفن الذي دفنت فيه، كان هذا هو الخيط الأول لرحلة بحث طويلة، استمرت لسنوات، تتبعت إيمان مرسال أثر عنايات الزيات، لكنها في الواقع كانت تتبع أثر نفسها، منذ أن بدأت في رحلة بحثها الطويلة منذ عام 2014 إلى 2019 وهي تسير في مسار بدا وكأنه مُعد مسبقًا. وكأنها تستكمل سيرة لكاتبة أخرى كان يمكن أن تكون هي، تزور الأماكن التي زارتها، تبحث عن شارعها الذي تغير اسمه وتغيرت معالمه، تصادق الجيران والباعة في انتظار كلمة، لمحة عن امرأة عاشت هنا منذ سنين طويلة، تلمس خشب الباب الذي كانت تعبره كل يوم إلى داخل شقتها، تتخيلها في لياليها الطويلة، تنيّم طفلها، تجلس على مكتبها، تعدل بعض الكلمات في روايتها الأولى، تبدأ في وضع تخطيط لروايتها الجديدة.

أعادت أيضًا التفكير في أمور كانت تعتبرها هامشية في حياتها، استردت إيمان أرشيفها المهمل في بيت والدها لترتيبه وحفظه بشكل لائق، بدأت في كتابة كتاب “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”.  لكنها وقعت في حفرة الاكتئاب مثلها، عادت إليها نوبات الهلع والأرق، وكان عليها العودة إلى الطبيب النفسي.

المشاعر التي توّحد بين الكاتبات

خاطر مخيف مر عليّ وأنا أقرأ، كان كل شيء يبدو مألوفًا، إنه نفس الشعور الذي شعرت به عند قراءتي لأول فقرة في رواية “الحب والصمت”، وأول فقرة في كتاب “الأمومة وأشباحها”، شعرت أن عنايات الزيات لم تكن مجرد امرأة عادية أو كاتبة موهوبة، كانت شيئًا غير ذلك، ولم أتمكن من التعبير.

سرحت بخيالي وفكرت أنها ربما كانت المادة الخام للكتابة، مادة لم تشكل ولم تصقل، هذه الطاقة التي هبطت إلى الأرض لحكمة ما، لم تتمكن من التأقلم مع كل التقلبات التي تعشش في جسمها الضعيف. طاقة الكتابة يمكن أن تكون خطيرة، يمكن أن تتسبب في أفكار مرعبة وهواجس اكتئابية، كانت عنايات تشعر بأنها وجدت من قبل في حياة أخرى، وكانت تتمنى لو أنها لم توجد في هذا الزمن، لو أنها تنتقل إلى زمان آخر ومكان آخر كما كتبت في روايتها. بدأت أتخيل روحها تغادر هذا الجسم الذي لم يعد يحتويها ليلة 3 يناير  منذ 56 عامًا، تتفتت إلى ملايين الذرات، كل ذرة تنتظر سكونها في جسم كاتبة ما، كاتبة تشاركها هذه الطاقة، تشعر معها بأنها تعرفها وأن حياتها مألوفة جدًا، تكمل معها رحلة جديدة في العالم الذي تحبه، تكتب معها عشرات الكتب، تصيبها ربما أحيانًا بالاكتئاب، تشعرها بالوحدة، لكنها تكمل الطريق.

إيمان مرسال حصلت على نصيب أكبر من هذه الذرات. لسبب لا نعرفه تشابكت الحياتان معًا. يقال إن هناك سبعة أشخاص بين كل شخصين في العالم، سبعة يقفون في الطريق بينهما، سبعة معارف، شخص يعرف شخصًا يرى شخصًا يعرفه. هذا ما حدث بين إيمان وعنايات. اكتشفت إيمان بعضًا من هؤلاء الأشخاص خلال رحلتها، شعرت أنها أقرب إليها في كل خطوة، الغريب أنها اقتربت كذلك من نفسها، يبدو أن رؤيتها للعالم أيضًا قد تغيّرت، يمكننا أن نقول بأنها أصبحت أوضح، وكأن جزءًا من ضبابيته تلاشى، ربما في هذه اللحظة التي وصلت فيها بعد مشقة إلى مقبرتها، ووقفت أمامها تبكي دون أن تشعر.

أنطولوجيا “جزّ الشعور”

على مائدتها الطويلة، استضافت إيمان مرسال الكاتبات اللاتي عاصرن وسبقن عنايات الزيات، من عائشة التيمورية إلى وردة اليازجي، مي زيادة وعائشة عبد الرحمن، أليفة رفعت ودرية شفيق وإنجي أفلاطون، جليلة رضا ولطيفة الزيات. احتفلت معهن بالذكرى السنوية لرحيل عنايات، واستعادت لحظاتها الأخيرة في هذه الحياة.

جزّت عنايات شعرها أمام المرآة. ربما كانت هذه خطوتها اليائسة الأخيرة للمداواة، ربما اعتقدت أن الشر يكمن في الشعر كما في الأساطير القديمة، ربما أرادت أن تغيّر من شكلها، أن تتحول إلى أخرى، فتنسى كل ما حدث، تنسى رفض روايتها من دار النشر، تنسى ذهاب حضانة ابنها إلى أبيه، تنسى شعورها بالاغتراب. حاولت الهروب من طيفها، لكنها لم تتمكن من ذلك، لم يشعر بها أحد وهي تأخذ الحبوب الوردية جميلة الشكل، وهي تذهب في غيبوبة لا عودة منها.

تتخيل إيمان كل الكاتبات وهن يفعلن المثل، يجززن شعرهن مرة على الأقل، مع كل خيبة أمل، مع كل خذلان واتهام وظلم وفقد وفشل. إنها مرحلة اليأس التام، الذي ربما يتلاشى مع نمو الشعر من جديد. تسميه إيمان: “أنطولوجيا جز الشعور”.

أنا أيضًا جززتُ شعري مرات عدة، قصصته في مرحلة المراهقة المضطربة، بعد انهيار الحب الأول، بعد الطلاق، بعد كل لحظة شعرت فيها بأن حياتي تتداعى، وأنني وحيدة تمامًا.

في روايتي الجديدة، تقف البطلة أمام المرآة، تسترجع لحظات إخفاقاتها، فشلها في أن تكون كاتبة وابنة وأختًا وعشيقة وزوجة، فشلها حتى في الاحتفاظ بذاكرتها، تجز ضفيرتها الطويلة وتتلاشى.

شعرت بأن ذرة روح عنايات الكامنة داخلي هي من كتب، بدا وكأن عقلي يدخل في غيبوبة عاطفية، حيث الضباب يغلف كل شيء. كانت طبقة من الدموع تغطي عيني وتحجب عني رؤية السطور.

التلاشي

عندما أنهت عنايات مهمتها مع إيمان مرسال، بدأت آثارها الأخيرة في التداعي، ينتهي الكتاب في المقبرة كما بدأ منها. تقول إيمان إن عنايات أرادت ترك المقبرة خلفها كما تركت كل شيء قبل ذلك، أرادت أن تظل حرة وخفيفة بلا أرشيف شخصي ولا شجرة عائلة ولا شاهد قبر.

مثل إيمان أحب التفكير في أن عنايات لا تزال موجودة، تكتب روايتها الجديدة وتكمل حياتها مع ابنها، تجد حبًا جديدًا، تلقى التقدير الذي تستحقه، تنتهي الوحدة، تعرف أخيرًا معنى الحياة.

اقرأ أيضًا: مي زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد

اقرأ أيضًا: فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة
المقالة السابقةدومًا يمكننا البدء من جديد
المقالة القادمةهل تولد النساء ومعها اضطراب ثنائي القطب ؟
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا