على سبيل البشارة أحب أن أخبرك أنه يُمكننا دومًا البدء من جديد والجري بملء طاقتنا وكامل قوتنا، وبأشدّ ما نملك من العزم حينما لا نرضى، حينما نجد أن ما حولنا لا يُشبهنا، حينما نشعر أننا لا نسير خطوة للأمام ولا نصعد درجة لأعلى، حينما نتأكد أن كل ما يحدث في حياتنا هو أننا نقف في أماكننا أو نتراجع إلى الوراء أو نهبط درجًا لا نهاية له، وسيصل بنا إلى المرحلة التي لن نستطيع أن نتنفس بها.
لا أقول لك ما سبق من واقع محاضرات ومقالات التنمية البشرية، بل أنقل لك مُلاحظتي من تجارب عشتها وعايشتها. مهما بلغ حجم تورطنا يمكننا الهروب، مهما بلغ مقدار خطأنا الذي وصل بنا إلى كل هذا الظلام لا ينقطع الأمل أبدًا، كل ما عليك هو ألا تقبل، ألا ترضى ولا تستسلم ولا تُخبر نفسك أن هذا الوضع الذي ستعيش وتموت عليه وكل ما عليك هو أن تتأقلم معه.
أيًّا ما كان المكان الذي أنت به، سواء مكان عمل أو علاقة عاطفية أو شراكة مهنية أو حياتية، حينما تشعر بالظلام يُخيم حولك، حينما تشعر بالاختناق وبأنك لا تستطيع التنفس.. اهرب.
اطمئن، ستستطيع بكل سهولة أن تعرف أن الوضع غير مُناسب لك، نحن لدينا حاسة قويّة كالرادار تُخبرنا بقوة وإلحاح أننا في وضع سيئ، وضع لا يُشبهنا، وضع سيصل بنا إلى ألا نكون نحن، حينما تصل إليك هذه الإشارة كل ما عليك هو ألا تتجاهلها، وفي هذه المرحلة عدوك الأول والأقوى هو ذاك الصوت الذي يُخبرك أن كل ما عليك هو أن تحاول التأقلم.
لا تتأقلم إلا إذا كنت تتطور
دعني أُخبرك بنصيحة هنا، لا تتأقلم إلا إذا كنت تتطور، تتقدم، تشعر بالارتياح والرضا، يُحيط بك الأمان والاطمئنان، هذه هي الأشياء التي في ظل وجودها أو في ظل وجود واحد على الأقل منها يُمكنك التفكير في التأقلم، لكن في حالة عدم وجود أي منها، إياك أن تحاول التأقلم، التأقلم في هذه الحالة يعني خسارة نفسك، يعني أن تكون غيرك، يعني أنك ستسعى أن تُشبه فقط من حولك، وسيصبح أقصى أملك أن تعيش دون أذى، دعني أُحذرك أن في هذه الحالة أيضًا لن تكون بمنأى عن الأذى أبدًا، سيطولك الأذى مهما حاولت الابتعاد.
تُخبرني صديقتي أنها لا تستطيع التأقلم مع بيئة عملها التي قضت فيها سنوات طويلة، تُحقق من خلال عملها الكثير من النجاح، لكنها تشعر أن روحها تختنق، تشعر أنها إن استمرت لن تصبح الشخص الذي تعرفه عن نفسها، ظلت مُترددة لفترات طويلة، لكن الرادار بداخلها لا يهدأ، يُخبرها أن عليها الرحيل، الرحيل اليوم.. الآن في هذه اللحظة، بلا تجاهل ولا تلكؤ، إلى أن تقبل الإشارة في نهاية المطاف، يُخبرها من حولها أن تتأقلم، أن تُشبه من حولها حتى لا تشعر بغربة، لكنها لا تستطيع تجاهل الرادار الذي يُخبرها بضرورة الرحيل، فترحل وتحاول البدء من جديد.
لدينا جميعًا رادار داخلي كل ما علينا هو الإنصات له بعناية
يقول لي صديق إنه يؤمن بشدة بوجود هذا الرادار بدواخلنا، نُخطئ كثيرًا، نصدم رؤوسنا بحوائط صلبة تجعل دماءنا تسيل بين أعيننا، نؤذي أنفسنا بشدة بمشاعر هوجاء أو قرارات خاطئة أو خبرة قليلة بدروب الحياة المتشابكة، ولكننا في النهاية ومهما بلغ حجم تهورنا نملك هذه الحاسة القوية بداخلنا، التي تُخبرنا بضرورة الهروب، وفي هذه الحالة علينا أن نستمع باهتمام إلى هذه الاستغاثة الداخلية، وأن نستجيب.
كانت في الستين من عمرها، لا تعرف طوال حياتها سوى عملها وبيتها وأبنائها، لكن جاء السن التي فيها يستغني العمل عنك، ويترك الأبناء مساحتك الآمنة الدافئة باحثين عن حياتهم وتحقيق ذواتهم. كان يُمكنها أن تظل في مكانها تندم على أنها أعطت كامل عمرها لأشياء غير باقية، وكان يُمكنها أن تشعر بالاستحقاق وتُطالب برد الجميل وتُحاصر أبناءها بالتضحيات التي بذلتها لأجلهم، وكان يُمكنها أن تجعل الفراغ يلتهم حياتها بين النوم والتلفاز الذي لا تطيقه ولكنها لا تجد سواه مؤنسًا.
الحقيقة أنها لم تقبل أيًّا من الأوضاع السابقة، وقررت أنه لم يفت الوقت أبدًا، وأنه ما دام أعطاها الله الصحة والقدرة فقد بطلت حجتها وعليها أن تتحرك. قررت أن تُساعد في جمع التبرعات لتزويج الفتيات اليتيمات، وكانت تُشرف على شراء لوازمهن وتختار معهن مفروشات بيوتهن بمال تجمعه لهن.
لا تنظر إلى الوراء
حينما تبدأ من جديد، لا تدع نفسك تمر بتجربة “م” صديقتي، التي تعرضت لأزمة أخلاقية وفكرية بسبب تعاملها مع مجموعة من الناس كانت تثق بهم بشدة، وتبالغ في محبتهم، شيئًا فشيئًا لم يعد الأمر مثلما ابتدأ وانتهى بالكثير من الجراح النفسية والمعنوية بعد صدمات الاكتشافات والخذلان، بعدما اقتربت لتجد أن الضوء المُبهر من بعيد كان يُخفي الكثير من التفاصيل في نفسها ونفوسهم، تفاصيل لن يستطيعوا التعامل معها أو التأقلم، وهو ما أدى إلى قرار مُشترك ضمنيًا، حتى وإن لم يُصرَّح به، بأنه يجب الابتعاد، ليس الابتعاد فحسب، بل ينبغي الركض لأبعد مسافة مُمكنة.
بعد الركض والابتعاد أصبحت “م” كالقطة التي يضغط أحدهم بقدمه على ذيلها، أصبحت مُتحفزة ومذعورة، تُعيد تذكر المشاهد وتحللها وتحاول فهمها، يبدو الأمر صحيًّا، لكن ما لم يكن صحيًّا على الإطلاق هو أن “م” استمرت في فعل هذا لسنوات، سنوات لا تستطيع أن تكف عن التذكر والنظر إلى الوراء، وإعادة الصياح من وقت للآخر “يا لهم من أوغاد! اللعنة!”.
لم تربح “م” من وراء هذا أي شيء، كل ما فعلته هو أنها أعطت الماضي فرصة لأن يصبح حاضرًا، وأعطت الإيذاء فرصة جديدة لتحقيق المزيد من الألم.
حينما تبدأ من جديد، لا تنظر إلى الوراء، لا تجعل الندم يلتهمك على ما مرّ، لا تجعل المشاعر السلبية عندما تتعرض للإيذاء تُسيطر عليك وتسرق ما بقي من عمرك، أنت تمكنت من الهروب، ولديك الفرصة للبدء من جديد، وهذا أمر كافٍ جدًا لكي تمتن للسماء وللحياة، أنه لا زال لديك عُمر لم يُسرق، قد يكون لديك قلب مُنكسر من الألم، قد يكون لديك ثِقل في صدرك يجعل الحياة قاسية عليك ولا تُحتمل، الأشياء السابقة كالثقوب السوداء يُمكنها ابتلاعك دون أن تُبقي منك شيئًا، لا تستسلم، فقط املأ نفسك بفكرة أنه لا زال في العمر بقية، وأن الله لم يتركك تموت في الوضع الذي كنت لا تقبله، وأنك تستحق أن تعيش ما تبقى، حتى وإن كان ما بقي هو يوم واحد فقط.