الكاتبات والوحدة 3: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد

2473

متى تبدأ الفتيات في إدراك حقيقة كونهن فتيات؟ ربما يتفاوت الأمر باختلاف المكان والزمان، بعض الفتيات يدركن هذا وهن مثبتتات على الأرض، سيقانهن مفتوحة أمام مشرط يبتلع هذه الحقيقة، بعضهن يدركن وهن محرومات من الخروج، من اللعب في الشارع، من ركوب الدراجة، من ارتداء فساتينهن القديمة. بعضهن يدركنها وهن مجبورات على ارتداء ملابس يكرهنها، مجبورات على الزواج، على دراسة ما لا يرغبن فيه. البعض يدركنها وهن واقفات في أوتوبيس، أو جالسات في ميكروباص، وثمّة أصابع تتسلل إلى أجسامهن. يدركنها وهن يسرن في الشارع، يتلقين صفعة أو دفعة أو كلمة بذيئة مع ابتسامة.

إدراك أنني أنثى حدث في لحظة لا تخرج من هذه اللحظات، كنت أجلس في أوتوبيس شبه فارغ في وقت مبكر من الصباح، في طريقي للكلية التي أسافر إليها يوميًا، نصف نائمة، أحمل حقيبة أدوات ضخمة، ارتدي سراويل واسعة وبلوزة بأكمام طويلة، وعلى الصف المجاور شاب ينظر إليَّ بتركيز، ويده تمارس فعلاً مشينًا، أمام عيني، في ضوء النهار، يبتسم كلما ازدادت نظرة الذعر في عينيّ، وعندما نزلت من الأوتوبيس لأكمل طريقي سيرًا على القدمين، أدركت أنني أنثى، وشعرت أنني موصومة، وأن عليّ إخفاء حقيقتي.

طفولة نوال السعداوي في القرية شكلت شخصيتها

نوال السعداوي أيضًا أدركت هذه الحقيقة مبكرًا، ربما تكون قد أدركتها فور ولادتها، عندما نظرت الداية إلى ما بين ساقيها فلم تطلق زغرودة طويلة كما فعلت عند ولادة أخيها الأكبر. أدركتها وهي تكبر في بيت ريفي في قرية كفر طحلة عام 1931، بين قصص عديدة لنساء لم يتشاركن سوى في الهم، فتيات يتزوجن في سن العاشرة والحادية عشر، تراق دماء شرفهن علانية، ويتحولن في غضون شهور إلى عجائز جالسات في الغرف الضيقة المظلمة، لا يملكن أحلامًا، لا تدور في عقولهن أفكار.

الغريب أن النساء كن أكثر من يلتزمن بقيودهن، كل هذه الحوادث والهموم والحزن والخوف والألم، لا يزدهن إلا تشبثًا بالسجن الكبير الذي وضعتهن فيه أنوثتهن، إلا نوال، التي تمردت منذ الطفولة، ربما لأن عقلها الطفل الذي لم يقيّد بعد، لم يتمكن من استيعاب الحكايات التي تحكيها لها جدتها عن زواجها المبكر والعنف الذي حدث معها، الجدة تحكي وتضحك، أما الطفلة فتقسم أنها لن تتزوج أبدًا.

كانت الحوادث الصغيرة في حياة نوال بمثابة بالونات هواء تنتفخ لتُحدِث انفجارًا في مراهقتها، كانت تلاحظ فرق المعاملة بينها وبين أخيها، كل أوامره تنفذ، يخرج وقتما يشاء، يلعب مع أقرانه، يأخذ عيدية أكبر، رغم أنها تتفوق عليه في الدراسة، إلى جانب أنها تنفذ مهامها المنزلية، من تنظيف وطبخ ومسح، بينما يجلس هو بلا شيء ليفعله. بدأت نوال في طرح الأسئلة، والشك في عدالة المجتمع، وزادها هذا تشبثًا بحقها في التعليم، حتى لو كان هذا يعني انتقالها إلى القاهرة، وإقامتها في بيوت أقارب لا يعتنون بها، أو مشيها لأميال بحقيبة ثقيلة للحاق بالحصة الأولى في مدرستها، لدرجة إصابتها بانزلاق غضروفي.

القهر سببًا للتمرد

أحيانًا كنت أكسر القلم، أمزق الورقة، أتوقف تمامًا عن الكتابة، سرعان ما أعود إليها كما تعود الطفلة إلى حضن الأم. الكتابة في حياتي مثل حضن الأم، مثل الحب، يحدث بلا سبب، ومع ذلك لم أكف عن البحث في السبب، لماذا أكتب؟ لماذا قضيت عمري أكتب القصص والروايات. ربما كنت أريد شيئًا، أن أرسم للعالم من حولي صورتي الحقيقية، تلك التي طمسوها بصورة أخرى، أن أجعل الطفلة الصامتة في أعماقي تنطق. لم أكن تعلمت النطق بعد، لكن جسدي كان قادرًا على الإحساس بالقشعريرة، قادرًا على إدراك الصمت في الأعين، قادرًا على رؤية الكلام في الحملقة من حولي، كنت أريد أن أمسك شيئًا له نصل حاد كشفرة المقص أو الموسي أو سن القلم.

الطفولة تشكلنا فعلاً، كانت حكايات خالاتي عن الختان تصيبني بالرعب، ليس بسبب الفعل نفسه قدر ما هو بسبب النبرة العادية التي يحكين بها الموقف المخيف، يتحدثن وكأن هذا شيء طبيعي، يضحكن وهن يتذكرن تفاصيله، بينما يقشعر جلدي. النساء يعتدن على الألم والقهر، يعتقدن أن هذا هو الشيء الطبيعي والمعاملة التي يستحققنها. ربما يكون هذا هو سبب الدهشة الكبيرة التي تصيب الجميع عندما تظهر امرأة، تقول “لا” بصوت عالٍ، ترفض القهر، وتتمرد على القيود.

على الرغم من التفرقة في المعاملة بين الولد والبنت في طفولة نوال السعداوي، وعلى الرغم من تعرض نوال نفسها للختان في سن السادسة، فإنها كانت محظوظة بأب متنور، ثوري، اعتاد الخروج في المظاهرات ضد الاستعمار الإنجليزي وحكومة الملك، ولم يقاوم كثيرًا رغبة ابنته في إكمال تعليمها. وأم تركية الأصل، ربما كانت مغلوبة على أمرها في الكثير من الأمور، ربما لم تكن تبدي مشاعرها نحو نوال، لم تُقبِّلها أو تحضنها كثيرًا، لكنها كانت تُقدِّرها في أعماقها، تُعجَب بشجاعتها، وترى فيها الحلم الذي لم تتمكن من تحقيقه.

عاشت نوال السعداوي حياتها كأيّ فتاة في قرية، تذهب إلى القاهرة أحيانًا لزيارة بيت أهل أمها، أو تعيش في الإسكندرية خلال عمل والدها فيها. لكنها مع كل يوم يمر، كانت تتشكل وتتكوّن، هناك نساء خُلِقن لمهام معينة، ونوال كانت واحدة منهن، خلقت لمهمة كبيرة ومرعبة، مهمة تغيير تقاليد لم تعد تناسب مجتمعنا، وهدم أفكار أقرب لتابوهات لم يجرؤ أحد من قبل على المساس بها.

شخصية نوال السعداوي لم تتكوّن من الكتب ولا الدراسة، ولا حتى من اشتراكها في المظاهرات، أو رغبتها في مقاومة الاستعمار، أو تعاملاتها مع الأحزاب المختلفة في الجامعة، شخصيتها تكوّنت من جميع القصص التي مرت عليها، من سعدية، الخادمة الصغيرة التي هربت ذات صباح رغبة في العودة إلى قريتها ولم يعثر عليها أحد، من شلبية الخادمة التي اغتُصِبَت وطردتها عمتها دون الاهتمام بمصيرها المظلم، من مسعودة، الفتاة التي تزوجت طفلة لرجل كان يكبرها بخمسين عامًا، اعتاد اغتصابها كل يوم حتى اعتقدت أن عفريتًا قد تلبسها.

كانت نوال تراقب كل هذه القصص دون أن تملك القدرة على الدفاع أو التدخل، القيود الاجتماعية أقوى منها، وهي وحيدة، مطلقة، على صدرها طفلة، لا تملك سوى علمها، ولقبها كطبيبة، لا تملك سوى أحلام بالمساواة والمطالبة بحقوق غير مستحيلة، حقوق عادية للنساء في مصر، يراها الجميع وكأنها مطالب خرافية، تستحق من أجلها أن تهاجَم وتسَب، ويقدَّم فيها تقارير مشينة، أو حتى تُتَّهم بالإلحاد والجنون وأن يُهدَر دمها. كانت تسمع بنفسها اسمها يتردد في الميكروفانات، بين أسماء المطلوب قتلهم، حتى اضطرت للسفر خارج البلد الذي تحبه ولا يحبها.

الحياة في بلاد لا تؤمن إلا بالمظاهر والكلمات المعسولة

كانت الكتابة منذ طفولتي هي ملاذي الوحيد، أهرب إليها من الأم والأب والعريس، وبَقِيَت الكتابة في كهولتي أيضًا الملاذ الوحيد أو الأخير. التصالح الممتع من خلال الكتابة مع الماضي والحاضر، مع كل ما أصابني في الوطن من جراح.

أنا أيضًا كنت أرى صورها في الجرائد وأضحك، أقول سيدة غريبة الأطوار، بنظرات مجنونة، تقول كلامًا لا يُصدَّق، كنت في الجامعة، في أوائل الألفية الجديدة، عصر انتشار مظاهر الزيف في كل مكان، وكنت واقعة في سحر الكلمات المغلفة بالسكر، ربما كنت راغبة في الاختفاء، الاحتماء خلف أيّ شيء صلب يجعلني أسير في الظل، إلى جوار الحائط، لا أكلم أحدًا، لا أبتسم، لا أغني لا أركض، لا أطلب الكثير. كنت راغبة في الانعزال وراء شرائط الكاسيت التي تمتلئ بخطب ودروس، وراء برامج تليفزيونية يقدمها شباب مرح أنيق. إلى أن جاء اليوم الذي جلست فيه على مقعد منزوٍ في حديقة الكلية، أقرأ جريدة شبابية شهيرة وجدتها بجواري، وأنظر إلى صورة فنان شاب محبوب، يشترك في تقديم البرامج الدينية، وهو يعترف مجبرًا في المحكمة بأُبوَّته لطفلة من زواج سري، بعد إنكاره لأسابيع.

كانت الصدمة شديدة. يومها أيقنت أن كل المظاهر خادعة، وأن هذه السيدة التي قرأت لها مقالاً منذ أيام تتحدث فيه عن ضرورة تغيير قانون الأحوال الشخصية، وعن حق النساء في الاعتراف بأطفالهن ولو من علاقة سرية، هي الأصدق والأكثر إنسانية.

لكن في بلاد لا تؤمن إلا بالمظاهر والكلمات المعسولة التي ترضي الفئة العامة من الناس، كان لا بد أن توضع نوال السعداوي على قائمة المكروهين، المضطهدين وغير المعترف بهم. تعرضت نوال لحملات هجومية من الجميع، رجال الدين والأدباء والأطباء والمثقفين والسياسيين. كان كل واحد منهم يخفي أحقادًا شخصية في هجومه عليها، وكانت التهمة الأكبر هي الإلحاد، والتي تليها أنها كاتبة تتوجه بأفكارها للغرب، رغم أنها لم تدافع سوى عن حقوق المرأة والإنسان في العالم كله.

من الغريب أن امرأة واحدة تمر بكل المصائب التي يمكن أن تواجهها النساء في المجتمعات العربية، زوجها الأول كان طبيبًا ثائرًا وعضوًا في المقاومة الشعبية، انتهى نهاية درامية بعد محاولته قتلها بفعل الإدمان. زوجها الثاني كان رجلًا لا تحبه، ألقى بأوراقها من الشباك فألقت بنفسها وراءها، نجت من الموت بأعجوبة.

تحكي د. نوال في مذكراتها أنها بعد خروجها من المستشفى ورفضه تطليقها، وجدت نفسها ممسكة بمشرط الجراحة، ترفعه في وجهه بلا تفكير، نظرت في المرآة فرأت امرأة أخرى، شاحبة بعينين بيضاوين، وأدركت أن اليأس يحوِّل الجميع إلى وحوش، مهما بلغت درجة علمهم أو ثقافتهم.

كيف حافظت نوال السعداوي على اتزانها؟

مشكلة نوال السعداوي هي مشكلة كل امرأة ذكية وحساسة، الانغماس في التفاصيل. كانت ترى في كل حادث اختصارًا للحياة نفسها، وكانت تشعر بالظلم والقهر أكثر بكثير من بقية البشر، ربما لهذا أصبحت الكتابة هي ملاذها الوحيد. رغم كل هذه الحياة الصاخبة، والعمل السياسي والاجتماعي، والمؤتمرات والجمعيات والخطب، لا تشعر بنفسها إلا أمام الورقة والقلم. إنها نفس الطفلة التي طُرِدَت من فصلها في الطفولة لأنها سألت مدرس الدين عن إن كانت الجنة تحتوي على الأوراق والأقلام.

وفي عام 78، عاشت نوال السعداوي الوحدة الحقيقية. كان زوجها الثالث الدكتور شريف حتاتة في منفاه الاختياري في الهند، بينما تنزوي هي في شقتها في الجيزة، بلا أصدقاء أو داعمين، بعد معارضتها لنظام الانفتاح، وكتابتاها المثيرة للجدل عن المرأة والرجل والجنس. كانت الصحف ترسمها على شكل شيطان يحارب الدين ويتمرد على الآداب العامة، وامتنعت دور النشر في مصر عن نشر أعمالها، لكنها لم تتوقف عن الكتابة، بدأت في نشر كتاباتها في دور النشر اللبنانية والعربية. اﺧﺘﻔﻰ اﺳﻤها ﻣﻦ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻟﻸدﻳﺒﺎت في مصر، وطردت من لجنة القصة في المجلس الأعلى، وتم الهجوم على أعمالها وكتاباتها، بدعوى أنها لا تنتمي للأدب، بل هي مجرد بحوث طبية واجتماعية تسيء للمجتمع وتشوِّه صورة الوطن، وتدعو للفوضى والإباحية وترفض القيم الأصلية والتراث المجيد.

في عام 1981 اعتُقِلَت دون تحقيقات أو محاكمة، بسبب معارضتها لاتفاقية كامب ديفيد. أُلقِيَت في زنزانة ضيقة مع معتقلات أخريات من مختلف الأيدولوجيات، منهن د. لطيفة الزيات. كانت الزنزانة لا تطاق، حشرات وفئران وصراصير في كل مكان، لا مرحاض آدمي ولا قدرة على الاستحمام لأسابيع، المدخنة بخارج السجن تسقط قطرانًا أسود على الوجوه في اللحظات التي يقضينها في الفناء. لكن أقسى ما كان وسط كل هذا، هو منع الأوراق والأقلام عن السجينات. الكتابة هي الخطر الأكبر الذي يهدد الظالمين، لكن نوال لم ترتح إلا بعدما تمكنت من توفير قلم عين وأوراق تواليت تستخدمها في الكتابة، وتدفنها أسفل البلاط المكسر.

ما يجب تصحيحه عن نوال السعداوي

الكتابة هي ما حافظت لنوال السعداوي على اتزانها، وهي ما حمتها في لحظات الوحدة الطويلة. مشوار طويل عاشته هذه المرأة، لكن المخيف أن كل ما يتبقى منها باستثناء مؤلفاتها الكثيرة، هو مقالات وأخبار على شبكة الإنترنت تسعى إلى جمع المشاهدات، لا تركز سوى على “10 تصريحات مثيرة للجدل لنوال السعداوي”.

من المرعب متابعة تعليقات الناس العاديين وحتى بعض المثقفين عن نوال السعداوي، تجاهل النضال والتمرد والوقوف أمام معتقدات مميتة وأفكار ضد الإنسانية، المعافرة والسفر حول العالم دفاعًا عن المقهورين في كل مكان، التمسك بحرية الرأي، والسجن في سبيل ذلك، والاكتفاء بالسخرية من اختياراتها الشخصية، شكلها وطريقة كلامها، حتى السخرية من صراحتها وقوتها.

قوة المرأة تخيف أشجع الرجال، ونوال السعداوي اختارت طريقها من البداية، التمسك بقضيتها وأفكارها، حتى لو كلفها ذلك انعزالها عن المجتمع، ووحدتها التي قبلت بها ثمنًا زهيدًا مقابل الحفاظ على هويتها.

اقرأ أيضًا: الكاتبات والوحدة 1: ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: الكاتبات والوحدة 2: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

المقالة السابقةأنا فتاة في الثلاثين عزباء
المقالة القادمةهل نتغير بعد الزواج؟
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا