خلي بالك من زيزي: الذات الحقيقية والذات المزيفة

1396

حظى مسلسل “خلي بالك من زيزي” بمشاهدة واسعة في موسم دراما رمضان الماضي، فقد كان مفاجأة الموسم بلا منازع، خصوصًا أن المؤشرات الأولى كانت تشير لمسلسل خفيف لطيف، البعض ظنه سيستعرض قصة حب لطيفة تكون حديث الصفحات الرومانسية على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما ظن البعض الآخر أننا بصدد نسخة جديدة من “اللي قادرة على التحدي والمواجهة”، خصوصًا أن بطلة المسلسل أمينة خليل كانت هي “القادرة” في مسلسل ليه لأ.

حافظ مسلسل “خلي بالك من زيري” على الخفة واللطف في طرحه لمواضيع نفسية عميقة، خفة كانت كافية لأن يستقبل المشاهد حقائق ومعلومات توقظ في نفسه أوجاعًا داخلية عميقة، ربما لم يعد يراها مع انشغاله بالحياة المتسارعة، بنفسٍ راضية راغبة في معرفة المزيد ولديها استعداد لتعرف الداء وتُفكر في الدواء، خصوصًا بعد أن قدم صورة إيجابية عن الطب النفسي، بعد سنواتٍ من التشويه والوصم وتصوير المعتلين نفسيًا بأنهم مجانين، لا أمل في شفائهم يلاحقهم الأطباء أو الأخصائيين النفسيين بجهاز الصدمات الكهربائية.

سلط المسلسل الضوء على الكثير من المواضيع النفسية، بعضها كان التركيز عليه واضحًا جليًا، مثل: العلاقات المسيئة، الاعتمادية، اضطراب التشتت وفرط الحركة، إساءات الطفولة، الضحية والمنقذ، والبعض الآخر يُمكن قراءته من خلال رسم الشخصيات، مثل: الذات الحقيقية والذات المزيفة والأدوار التي يلعبها الطفل في أسرة المنشأ، والتي يستمر في لعبها حتى بعد النضوج والانفصال عن الأسرة.

غالبية المشاهدين في الحلقات الأولى من المسلسل، كوّنوا انطباعًا عن غالبية الشخصيات، “زيزي” عنيفة، “نيللي” اعتمادية، “هشام” ضعيف الشخصية، “ياسر” مسيطر، “مراد” المنقذ، إلى آخر الشخصيات، وهذا يطرح تساؤلًا هامًا: هل ما شاهدناه من أفعال للشخصيات معبر عن شخصياتهم الحقيقية أم أنها دفاعات نفسية تكونت لدفع إساءات تعرضوا لها سابقًا، بمعنى آخر، هل هذه هي ذواتهم الحقيقية أم الذوات المزيفة التي اضطروا لتصديرها للمجتمع من حولهم؟

خلي بالك من زيري
أمينة خليل/ زيزي في لحظة غضب

اقرأ أيضًا: خلي بالك من زيزي: كل شيء يبدأ من الطفولة

الذات الحقيقية والذات المزيفة والفرق بينهما

يُعرف د. أوسم وصفي، استشاري الطب النفسي، الذات الحقيقية في كتابه “مهارات الحياة”، بأنها: الذات التي تحتفظ بكل الطاقات الكامنة والمواهب والقدرات للعيش والاستمتاع في هذا العالم، هي الكيان الحقيقي الذي خُلق عليه الفرد، ومن المفترض أن تنمو وتتطور وتحتفظ بشعورٍ إيجابي تجاه نفسها. الذات الحقيقية هي التي تنضج من طفلة إلى مراهقة إلى بالغة في سلاسة وسهولة، وتمتلك ذاكرة متكاملة منسابة وبشعور متسق بالذات في علاقة ثابتة ومشبعة ومستقرة بالعالم الخارجي.

هل هذا ما يحدث بالفعل؟ هل ننمو ونتطور بسلاسة ويسر؟ أعتقد أن نسبة كبيرة من البشر لم يمروا بعملية النضج بهذه السلاسة المذكورة، فقد تعرضوا للإيذاء، إما من مجتمعاتهم المصغرة (الأسرة) أو المجتمعات الكبيرة، الإيذاء الذي يغلف الذات الحقيقية بمشاعر الخزي والعار والخوف، فبدل أن يصنع الفرد روابط حب مع نفسه والآخرين، يصنع روابط خوف وانفصال، ويخلق دفاعات ليصد عن نفسه الأذى، هذه الدفاعات هي التي تخلق الذات المزيفة، التي تصنع عازلًا بينها وبين الناس والحياة.

في نفس الكتاب المذكور سابقًا، يُعرف وصفي الذات المزيفة بأنها: هي الذات المريضة أو ذات غير أصلية (قناع)، ليست الذات الحقيقية التي خُلقنا لنكونها، هي دفاعات ضد الأحداث التي مررنا بها في طفولتنا ومراهقتنا والدفاعات المتوارثة من الأهل، التي نعيش انطلاقًا منها أغلب الوقت، الأمر الذي يضر بعلاقتنا بأنفسنا والناس والعالم، ويضر صحتنا النفسية والروحية والاجتماعية والمهنية.

اقرأ أيضًا: تأملات في كتابيّ “التعافي وحب الله” و”الروحانية والتعافي

الأدوار في دراما الأسرة

الغالبية العظمي من البشر ينشؤون في أسرة مكونة من الأب والأم والإخوة والأخوات، العلاقات التي تنشأ ما بين الفرد وبقية أفراد أسرته، يحملها معه طوال العمر وتؤثر فيه التأثير الأكبر، قد يكون التأثير إيجابيًا فينشأ على قدر من السواء النفسي، وقد يكون سلبيًا فينشأ بعلة نفسية تترك ظلالها السلبية على حياته.

التأثير السلبي لا يحدث فقط من الإيذاء الصريح الذي يتعرض له الفرد في أطوار نضجه، وإنما توزيع الرعاية والاهتمام داخل الأسرة الواحدة قد يخلق تأثيرًا سلبيًا في حال لم يكن توزيعًا عادلًا للمحبة والرعاية. يرى علماء النفس أن الأفراد في كل أسرة، سواء كانت هذه الأسرة سوية أو مضطربة، يلعبون أدوارًا درامية معينة، نذكر منها: البطل، كبش الفداء، المهرج، المنسي، مهدئ العاصفة، الشهيد، المنقذ، الناقد.

في الأسر السوية من الممكن أن يتبادل الأفراد لعب الأدوار المختلفة بحسب الموقف، أما في الأسر المضطربة تكون الأدوار ثابتة دون مرونة، فكل من يلعب دورًا يظل يلعبه دائمًا دون تغيير، واستمرار لعب هذه الأدوار طوال فترتي الطفولة والمراهقة، يؤثر في تكوين شخصية الفرد، فالدور يُملي عليه طريقة تفكير وردود أفعال وسلوكيات محددة لا تتغير.

تعريف هذه الأدوار بشكلٍ مختصر تبعًا لكتاب صحة العلاقات لـ د. أوسم وصفي:

البطل:

مصدر فخر الأسرة أو التعويض، الابن المتحمل للمسؤولية أو الابنة المتفوقة، الشخص الذي يحصل على كامل المديح، فيدمنه ويدمن كل السلوكيات التي تجعله يحصد المديح، لكن في داخله يشعر بالخوف الشديد من الفشل ويتوق لأن يصبح محبوبًا لذاته لا إنجازاته.

كبش الفداء:

الفرد الذي اعتاد أن يتلقى كامل اللوم على مشكلات الأسرة، الذي يعجز عن الحصول على اهتمام الأسرة الإيجابي، فيقرر أن يحصل على اهتمامهم السلبي، لأنه بالنسبة إليه أفضل من التجاهل، عندها يمارس السلوكيات التي تجلب عليه التوبيخ وأحيانًا الضرب.

المهرج:

الفرد الذي اعتاد أن يستخدم الفكاهة والضحك كوسيلة للتعامل مع الألم، يستخدم حس دعابته للترويح عن نفسه وأسرته وقت المشكلات والأزمات، يستمر في هذا الدور طويلًا، فيصبح مطالبًا به ولا يحق له الشكوى أو التذمر أو التعبير عن احتياجاته أو آلامه، وفي حال عبر عن ذلك، لا يؤخذ على محمل الجد.

المنسي:

الفرد الذي اختار منذ طفولته أن يبتعد عن طريق الجميع، فلا يسبب مشكلات وليس له طلبات، يكون المديح الوحيد الذي يتلقاه “لم نشعر به مطلقًا”، فيكبر وهو يحاول أن يحل مشكلاته بنفسه ويميل إلى الوحدة والاستمتاع بمفرده، وإذا امتلك مقومًا من مقومات النجاح يصب كل طاقته ليستغرق وينجح فيه.

مهدئ العاصفة:

هو الفرد الذي لديه موهبة تهدئة الأمور ومعالجتها، بأن يقول الكلمات المناسبة في الأوقات المناسبة للأشخاص المناسبين، وعندما تكتشف الأسرة هذه الموهبة فيه، يصبح مسؤولًا عن احتواء أي مشكلة تقع داخل الأسرة، ويبدأ باستمداد قيمته من حل مشكلات الآخرين.

الشهيد:

هو المستعد لفعل أي شيء لكي يصلح الأمور داخل الأسرة، هو الصورة السلبية للبطل، حيث يشعر بقيمة نفسه ليس بالنجاح والإنجاز وإنما بالتضحية بنفسه أو سعادته أو راحته من أجل الآخرين، يكبرون مقتنعين بأن حمل مسؤولية الآخرين أفضل شيء يفعلونه في الحياة، لأنه يشكل قيمتهم أمام أنفسهم.

المنقذ:

يشبه دوره دور مهدئ العاصفة، لكنه غالبًا ما يتعامل مع الأمور الخارجية للأسرة، فيسعى لتجميل صورة الأسرة أمام العالم الخارجي، فيغطي على إساءات الأب أو الأم أو كليهما، يتمتع بلباقة ومهارات اجتماعية خاصة تساعده على ذلك، لكنه يكبر منكرًا للحقائق المؤلمة المغطاة بالمظهر الجميل الذي صنعه، فلا يقبل المساعدة أو الاعتراف باحتياجاته ويدمن إنقاذ الآخرين، لأنه يستمد قيمته من ذلك.

الناقد:

هو الذي يهرب من الألم والمعاناة في الأسرة، بأن ينفصل عنهم نفسيًا وينظر إليهم بفوقية وينتقد ويحكم وقد يهاجم في بعض الأحيان، فينشأ ميالًا للانتقاد والهجوم عندما يواجه مشكلات في علاقته.


تحليل شخصيات خلي بالك من زيزي

في ضوء المعلومات السابقة، يُمكن القول إن لا أحد في شخصيات مسلسل “خلي بالك من زيزي” يتصرف تبعًا لذاته الحقيقية، وإنما تُحركه ذاته المزيفة والدفاعات التي خلقها ليتجنب الأذى والدور الذي كان يلعبه في طفولته:

زيزي:

الطفلة المصابة باضطراب التشتت وفرط الحركة، التي كانت تُعاقب بالحبس في غرفة الغسيل، التي لعبت دور كبش الفداء الملام على كل مشكلات أسرته، لأن والدتها لم تكن ترغب في إنجابها، هي في الأصل ليست عنيفة، لكن العنف دفاعها لصد الإيذاء، هذا لا ليس تبريرًا لإساءتها في حق زوجها، وإنما تفسير، والفرق ما بين التبرير والتفسير كبير.

نيللي:

بطلة والدتها ومصدر فخرها والتعويض الوحيد لها عن علاقتها المضطربة بزوجها، تقول في أحد المشاهد: “كلهم شايفني إن أنا نيللي الجدعة الشاطرة الاجتماعية القوية”، بينما في داخلها تعاني بصمت حتى لا تتأثر صورة البطل في أعين الآخرين، هذا البطل الذي يخاف الفشل، تطور خوفه لأن يطال كل شيء، إلى جانب ذلك فهي طفلة وحيدة، فكان التعلق بينها وبين والدتها كبيرًا ولم يحدث بينهما الانفصال الطبيعي ما بين الأم والطفل، فأدى لأن تصبح شخصية اعتمادية على الأم وعلى الآخرين.

هشام:

بشكلٍ ما يلعب “هشام عسل” دور المنسي في أسرته، فيترك كل شيء لشقيقه الأكبر “ياسر” الذي اضطر إلى أن يلعب دور الشهيد بعد وفاة والديه، فاختار أن يحمل مسؤولية المصنع وأيضًا مسؤولية شقيقه حتى في المواقف التي يرغب فيها “هشام” في حل مشكلاته بنفسه. يستغرق “هشام” في عمله الناجح الذي يستمد منه قيمته، ولوقتٍ طويل كانت تسليته في أنشطة فردية، وهو قادر على حل مشكلاته بنفسه لكن سيطرة أخيه لا تترك له الفرصة.

مراد:

قيل صراحةً في أحداث المسلسل إنه يلعب دور المنقذ، يظهر ذلك في علاقته بـ”زيزي” التي يُحاول حل مشكلاتها، وعلاقته بشقيقته “هدى” وعلاقاته بموكلاته في مكتب المحاماة الذي يديره، وبشكلٍ غير واضح يظهر في حرصه الدائم على تجميل صورة أسرته في كل مرة يدخل في نقاش مع شقيقته عن أسرتهما بشكلٍ عام ووالدتهما بشكلٍ خاص، الذي يظهر مدى تأثره وتعلقه بها.

خلي بالك من زيري
مسلسل خلي بالك من زيزي.. مواجهة ما بين الشقيقين ياسر وهشام

اقرأ أيضًا: خلي بالك من زيزي: كيف يمكن للفن أن يغير العالم؟

الطريق إلى الذات الحقيقية

من شاهد مسلسل خلي بالك من زيزي لاحظ كيف بدأ التغير في حياة زيزي يحدث تدريجيًا بعد أن استعانت بطبيب نفسي، وبدأت رحلة البحث عن ذاتها الحقيقية، وكانت لحظة التنوير في حياتها، لحظة معرفتها بأنها مريضة وتعاني من اضطراب التشتت وفرط الحركة، ثم مواجهتها لعائلتها والتخلص من الدور الذي أُجبرت على لعبه داخل الأسرة. التعافي يبدأ بقبول أن ما حدث قد حدث ونتيجته هو ما أصبحنا عليه الآن، ثم طلب المساعدة من طبيب أو أخصائي نفسي، ثم محاولة الوجود داخل مجتمعات صحية قائمة على قبول واحترام الآخر مثل: صديق جيد أو مجموعة علاجية أو مجموعة دعم نفسي. 

التعافي رحلة للبحث عن الذات، ليست سهلة على الإطلاق، قد يجد فيها الساعي نفسه فوق قمة، وفي اليوم التالي راقدًا في القاع، لكن الأمر يستحق التعب والسعي، كل اكتشاف عن نفسك هو بمثابة إنجاز، بالتدريج سنجد أن مشاعر الخزي والعار تتراجع ويحل محلها مشاعر القبول والحب الذي يساعدنا على تكوين علاقة صحية مع الذات والآخرين.

المقالة السابقةنوستالجيا: عندما غلبني الحنين للماضي
المقالة القادمةرحلتك للنور: عن الوعي والتجربة والوصول

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا