في الليل يتعاظم الشعور بالوحدة، ويستعد وحش الـoverthinking لحشري في الزاوية، والبدء في ممارسة ألاعيبه الصبيانية السخيفة، ذكرى سيئة من هنا، خوف غير مبرر هناك، حتى أجد نفسي واقعة بين عتمة الليل وعتمة نفسي.
سيناريو متكرر كل ليلة، لكن أنجح أحيانًا في كسر دائرة التكرار، أترك نفسي لكتاب أغرق فيه، أو فيلم يأخذني في حكايته، فأنشغل بها عما يدور في رأسي. في ليلةٍ ما أصابتني الحيرة، تُرى أي فيلمٍ سأشاهد اليوم؟ الاختيارات كثيرة لدرجة تمنعني من الاختيار، فجأة أتذكر منشورًا على موقع فيسبوك عن فيلم يبدو أنه مناسب لحالتي تمامًا، وبالفعل كان كذلك.
“Sliding Doors” فيلم درامي فانتازي رومانسي، صدر عام 1998، بطولة: “جوينيث بالترو/ هيلين”، “جون هانا/ جيمس”، و”جون لينش/ جيري”.
تبدأ أحداث الفيلم بـ “هيلين” التي تحاول الوصول لعملها في الوقت المناسب، تنجح في ذلك، لتكتشف أنها مفصولة، فتقرر العودة للمنزل، لتدفن كامل إحباطها وحزنها بين أحضان حبيبها “جيري”. تحاول “هيلين” اللحاق بالمترو كي تعود لمنزلها، لكنها لا تنجح، فيفوتها المترو.
تعود أحداث الفيلم للوراء قليلاً، حيث تستطيع “هيلين” اللحاق بالمترو، ومن هنا يبدأ الفيلم بعرض سيناريوهين متوازيين. السيناريو الأول يتتبع حكاية “هيلين” التي لم تلحق بالمترو وعادت للمنزل متأخرة لتجد حبيبها في انتظارها، والسيناريو الثاني يتتبع حكاية “هيلين” التي لحقت بالمترو وعادت للمنزل مبكرًا، لتكتشف خيانة حبيبها. ومع الحكايتين نشاهد ما تمر به “هيلين” من أحداث تتشابه قليلاً وتختلف كثيرًا، وصولاً لنهايتين مختلفتين تمامًا.
الفيلم يناقش إشكالية القدَر، وسؤال “ماذا لو؟” الذي يؤرق كل واحدٍ منا، بطريقةٍ بسيطة للغاية بعيدة عن تعقيدات الفلسفة. أنهيت الفيلم في ساعة ونصف، لكنه لم ينتهِ مني، فقد ظللت لأيامٍ أفكر في اختياراتي، والطرق التي سلكتها، وكيف كانت ستتغير حياتي إن اختلفت مساراتي. في النهاية استسلمت، نعم استسلمت لكل ما قيل عن القدر: “المكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين”، “لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع”، و”نصيبك هيصيبك”.
كنت أفكر كيف درست الهندسة وانتهت بي الحال أعمل في الكتابة! ماذا لو لم تكن الهندسة اختياري؟ ماذا لو درست الصحافة مثلاً؟ حتمًا كنت سأوفر الكثير من الوقت والجهد، لكن شيئًا في نفسي كان يُدرك أني كنت سأبذل نفس الوقت والجهد، لأنه كُتب عليّ أن أفعل، الاختلاف سيكون في المكاسب، لا أعلم من ستكون الأفضل، لقاء الصحفية أم لقاء المهندسة، لكن أعلم تمامًا أن الهندسة كانت السبيل الوحيد لأجد صديقتي “نداء” وتتوطد علاقتي بها، وهو مكسب يُعادل كنوز الدنيا بالنسبة لي.
فكرت أيضًا في علاقة استنزفت من عمري أربع سنوات، ماذا لو عاد الزمن بي للوراء؟ هل كنت سأختار نفس الاختيار؟ وعلى عكس ما كنت أردد دومًا، سأقول: نعم، نعم سأختار أن أمر بنفس التجربة، لأني أعلم في قرارة نفسي أنه قد قُدِّر لي أن تضيع هذه السنوات، سواء بهذه التجربة أو غيرها، لكن مكاسب تلك التجربة من القوة والنضج يزيلان من نفسي أي ذرة ندم.
لا أريد لحديثي هذا أن يكون دافعًا للاستسلام بحجة أن الأقدار مكتوبة، بالتأكيد ليس هذا ما أعنيه، فقبل الإقدام على أي اختيار/ فعل يجب أن نأخذ بكل أسباب النجاح، أن نبحث، ندرس، ونسعى للأفضل دائمًا، فإن جاءت النتائج عكس ما نتوقع، عدنا نبحث مرة أخرى في أسباب الفشل، لنقوِّمها في الاختيار القادم، بعدها يأتي الاستسلام الحميد بلا ندمٍ أو حزن، ودون أن تفتح جهنم “لو” بواباتها علينا، فنكتوي بنيرانها.
في حكايتيّ “هيلين”، كانت “هيلين” الأقل معاناة والأكثر سعادة وصاحبة الطريق الأقصر إليها، هي صاحبة النهاية المأساوية. بينما “هيلين” الأكثر معاناة والأقل سعادة وصاحبة الطريق الأطول إليها، هي صاحبة النهاية السعيدة. وهذا يؤكد أن كل طريق في الحياة له مصاعبه، فلا تشغلي نفسك إلا باختيارك، أغلقي باب “لو” وأكملي طريقك، النهاية الأفضل لكِ في آخره، وليست في الطريق الذي لم تختاريه.