في رواية “الوصايا” لعادل عصمت، كانت “فاطمة” هي ابنة “عبد الرحمن سليم” بطل الرواية، كانت “فاطمة” هي عمود العائلة حتى وفاتها، بعد أن تشتت الذكور في البلدان مع زوجاتهم وأولادهم تاركين وراءهم الأرض التي ورثوها وبيت العائلة. كانت “فاطمة” حتى نهاية صفحات الرواية هي التي تتولى الحفاظ على نهج والديها، وما ورثته عن أبيها من تعلُّق بالأرض وبيت الأسرة ولمّ شمل الإخوة.
على صفحات الرواية تجد “فاطمة” قد مرّت بتجربة أليمة للغاية خلال حياتها، تلك التجربة التي كادت تفقد فيها حياتها، والتي جعلت أفراد العائلة يبررون لها عصبيتها ونزوعها للعنف أحيانًا لأنها احتملت ألمًا لا تستطيع الجبال تحمله.
أما الألم الذي تحملته “فاطمة” فكان قبل زواجها بعدّة أشهر، كلما كان يقترب موعد الزواج كان قلق “الست خديجة” والدتها يزداد على ابنتها، كانت تعلم أن الداية قد تركت لها “فضلة” أثناء عملية الختان، وأجَّلت التخلص منها طويلاً حتى اقترب الزواج.
البنت من بيت كريم، ولا يصح أن تتزوج وطهارتها ناقصة. هكذا كانت ترى الأم، لكن البنت قد كبرت، والتدخل في هذا المكان الحساس أصبح صعبًا. فترة عصيبة قضتها الأم حائرة لا تعرف كيف تعالج المشكلة، فلجأت لأختها الكبرى، لتبحث معها عن حل لمشكلة ابنتها. استطاعت الخالة أن تجد حل الفتاة لدى واحدة من المعارف.
كان الحل الذي اقترحته المرأة صعبًا، لكن الأم والخالة وجدتا أنه لا مفر منه، فقد كانتا تخافان من اللجوء إلى الداية حتى لا تلوك الألسنة سيرة البنت. كان على “فاطمة” أن تتحمل الألم الناتج عن الحل الذي توصلتا إليه، أما الحل فقد كان أن بربط الفضلة بخيط رفيع ويُحكم عليها الرباط، وبعد يومين تنشف “الفضلة” وتسقط من تلقاء نفسها كقطعة من الجلد الميت.
لم توافق “فاطمة” على ما أرادتا أن تفعلاه بها، وقضت خالتها ليلة في إقناعها أن تتحمل الألم بدلاً من الفضيحة التي تراها الأم والخالة أمام الزوج وعائلته. كانت “فاطمة” تصرخ من الألم وهما تفعلان بها هذا، وفي المغرب ارتفعت درجة حرارتها وظلت تهذي ليلة كاملة، وفي الصباح بدأ تنفسها يتوارى وكانت على وشك أن تموت. حينما طلبها الأب حاولت الأم إخفاء الأمر عنه وأخبرته أنها مريضة، لكن عندما رآها أدرك أنها في حالة خطيرة، ما دفعه أن ينقل ابنته من القرية إلى الأطباء في طنطا حيث أقرب مدينة لهم.
عادت “فاطمة” بعد يومين صفراء ذابلة، كأنها مخلوق آخر، صامتة صمتًا لا يمكن اختراقه، بمرور الوقت بدأت في التعافي لكنها أصبحت عصبية أكثر من اللازم، وهو الأمر الذي لازمها بعد ذلك وتمكن الآخرون من التعامل معه ملتمسين لها الأعذار فيما واجهته من ألم شديد لا يحتمله أحد.
في كثير من القرى في مختلف أنحاء بلادنا تجد هذه النظرة، ختان البنت هو العفة، هو علامة البيت الطيب وعلامة للعائلة المُحافظة التي تعرف كيف تُزيل الدنس عن بناتها، والنجس المُحتمل الذي قد تُسببه هذه القطعة من أجسادهن. قد لا يتعلق الأمر بأنهن يحمين الفتاة نفسها من شيء ما، أو أنهم مُقتنعون كعائلة أن هذا الأمر هو أسلم لابنتهم في حياتها وأخلاقها، بقدر ما يتعلق بنظرة الناس لنا، وماذا يقول الزوج وعائلته عن البنت بعد الزواج إذا تزوجت واكتشف الزوج أنها غير مختونة.
في حالة “فاطمة” كان الختان قد تم بالفعل، لكنه ترك جزءًا صغيرًا يوحي بأن طهارة الفتاة غير مكتملة، وهو الأمر الذي أدار رأس الأم والخالة، حتى توصلتا إلى أن تتحمل البنت الألم خير وأفضل من أن تتحمل الأسرة الطيبة الفضيحة.
لا يشك الأهل في ابنتهم، قد لا يلقون بالاً إلى أن ابنتهم قد عاشت معهم عمرًا ولم يظهر عليها أي بادرة سوء من أي نوع. كل ما هنالك هو أن الأمر أصبح مرتبطًا بنظرة مجتمعية لن تحمل تقييمًا للفتاة، فقط بمجرد كون طهراتها غير مكتملة، لكنها ستُلقي أيضًا باللوم على البيت الذي اختاروه للنسب وتوسموا فيه الشرف والطيبة، وفي هذه الحالة ستكون الطهارة غير المُكتملة فضيحة للبيت والعائلة والرجال.
كثيرًا ما تُحدثنا الرسائل الإعلامية على كون الناس يظنون أن الختان هو ما سيضمن عفة وطهارة الفتاة وتحكمها في رغباتها الجنسية، وأنها دون هذه العملية ستكون غير مُتحكمة بهذه الرغبات ولا تستطيع السيطرة عليها بما يليق بفتاة محترمة وعفيفة، ربما لن تتمكن من التحكم فيما يدور برأسها من أفكار دون بتر هذه القطعة من جسدها، تقول وسائل الإعلام إن الناس في مجتمعات معينة ينظرون إلى الختان بهذه الطريقة، ومن ثم يفعلون هكذا في بناتهم.
ما نجح عادل عصمت في تجسيده في قصة “فاطمة” -على صعوبتها- هو أن الأمر ليس هكذا فقط، الأمر ممتد بشكل متجذِّر ليشمل “ماذا سيقول الناس عنّا؟”، وأن عدم ختان الفتاة هو فضيحة أمام الزوج بعد الزواج.
عبر هاشتاج “حكايات الختان” الذي أطلقه الإعلامي حسام السكري عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تقول سيدة إنها تعرضت لحرج بالغ من زوجها نظرًا لكونها غير مختونة. أخبرها الزوج أن شكل عضوها غريب، وهو ما دفعها للتفكير في إجراء عملية الختان وهي كبيرة، بسبب هذا الحرج الذي واجهته من الزوج، تقول عن ذلك: “فكرت عدّة مرات بمنتهى الجدية الذهاب للطبيب لعمل ختان لنفسي، واعتبرتها عملية تجميل، لكني أشعر بمنتهى الإحراج حين أذهب لطبيب نساء ويكشف علي”.
لم يواتِها من الجرأة ما يُمكِّنها من الإقدام على هذه الخطوة، لكن الضغط والحرج اللذين تعرضت لهما جعلاها تفكر مرارًا في أن تجري عملية الختان لابنتها إن رزقت بفتاة، وقالت “أرى الخطوة إجرامية ولكن أيهما أفضل، إحراج من زوج وأهل ومجتمع ومن النفس قبل الجميع، أم احتمالية فقدان جزء من الرغبة؟”، وفكَّرت أيضًا في أن تصارح ابنتها حين تصل لسن الختان عن تجربة أمها وما مرّت به، وتترك لها حرية الاختيار فيما ترتضيه لنفسها.
تؤصل السيدة السابقة الفكرة ذاتها.. لا علاقة للأمر بالعفة وكبت الشهوة، العامل الآخر القوي في المعادلة هو مجتمع يجد بعض أفراده غضاضة في قبول فكرة عدم الختان بالشكل الذي يدفعهم إلى إحراج زوجاتهم بشأن شكل أعضائهن التناسلية.
خاضت “فاطمة” الألم ونجت من الموت، لكن الألم الذي ذاقته بشدته كان التجربة التي غيّرت مسار شخصيتها ما بقي من حياتها، كما خاضت السيدة السابقة الحرَج وترك فيها بصمة من الألم، تجعلها لا تريد أن تُعرّض ابنتها للأمر نفسه الذي تعرضت له.
المشترك بينهما هو الاستسلام لشعورهما بأن الخطأ فيهما، والأمر ليس كذلك، ليس من حق أحد أن يجعلك تقتنعين أن قطع جزء من جسدك هو أمر يجب عليكِ أن تفعلينه من أجل الآخرين، من أجل أن يشعر أهلِك بعفتهم أو يسعد الزوج وعائلته بالزوجة المختونة والبيت الأصيل الذي اختاروه للنسب، فليس عليِك أن تخوضي هذه التجربة من أجل إرضاء أحد، هذا جسدِك ويجب أن تكوني أنتِ أول من يقبله كاملاً حتى تتمكني من الدفاع عنه ضد هجمات قد تبدأ من أقرب المقربين.