“سابع جار”.. أُلفةُ العادي

411

 

 

قد يرى البعض أن مسلسل “سابع جار” أحداثه عادية، لا مفاجآت ولا حوادث غير اعتيادية. الأقرب للحقيقة هو أن هذا تحديدًا ما يميّزه. أُلفة العادي التي نفتقدها بشدة، الحياة على أصدق صورها بكل ما فيها من تعقيد.

 

الأشخاص الذين يشبهوننا جدًا بلا تجميلٍ ومساحيق لا تناسب ساعات الصباح الأولى، ولا ملابس لا تناسب السهر على الكنبة أمام التليفزيون، ولا ديكوراتٍ أرستقراطيةٍ لا تشبه منازلنا، ولا دقّاتُ كعوب الـ١٢ سنتيمترًا لسيداتٍ خمسينياتٍ أرهقت وجوههن عمليات التجميل والشّد كي يبدَونَ أصغر، وكي يأخذن أدوار الصغار ويقعن في الحب كفتيات الجامعة، أشخاص يشبهوننا جدًا ونرى فيهم ما يمكن أن يفعله بِنَا الملل، أو الجنون، أو اليأس، أو فقدان الثقة، أو الخذلان.

 

الألفةُ أتت من دلال عبد العزيز التي تشبه أمي وأمهاتنا جميعًا، بخوفها المبالغ فيه على أبنائها، وبساطتها الحقيقية وحنانها البالغ، ورغبتها المفرطة في تزويج ابنتها الكبرى وإيصالها إلى بيت العدل، بصرامتها وقت الجد وبرقصها على المهرجانات الشعبية مع أبنائها وقت الهزل، برعايتها لأختها، “خالتك أهم حد في حياة مامتك.. معروفة”.

 

وأتت من “هبة” التي تشبهُ نصف جيلنا الضائع، والتي تذكّرني بنسخةٍ ما مني، بكل التمرد والحيرة والتساؤل الدائم “أنا عايزة إيه؟!”، والرغبة المميتة في الوصول إلى حافة الهاوية أو الوصول لأي شَيءٍ على الإطلاق، واعتقادها أنّ كل الناس تعرف ماذا تريد من الحياةِ عداها هي، لتكتشف شيئًا فشيئًا أنّ الكل ضائع ولكن على طريقته.

 

لطالما كرهت عروض البطولة المفردة، الدراما التي تدور حول شخصٍ واحدٍ وكل من حوله “سنّيدة”. كونٌ بأكمله يدورُ حول بطلٍ أوحد وأحداثٍ خُلِقت خصوصًا لأجله.

 

في “سابع جار”، سبعة بيوت بكل ساكنيها ترتكز عليهم جميعًا أحداث المسلسل، سبعة بيوتٍ مصريةٍ من أجيالٍ مختلفة وأفكارٍ مختلفة، فهناك اللواء العجوز الوحيد الذي توفّيت عنه زوجته، والأم التي تربّي ثلاثة أبناء وحدها بعد وفاة والدهم ذي السيرة الحسنة، والآنسة التي تسكن شقة بمفردها وتتكاثر حولها الأعين والألسنة، والفنّان الذي تزوّج فنانةً زميلة، وموظف البنك الأب لولدين وزوجٌ لامرأةٍ تقليديةٍ بامتياز، ولا ننسى سامح حارس العمارة الذي يقوم بأدوار التنظيف والحراسة وتوصيل الرسائل وجلب الطلبات في نفس الوقت.

 

تتفرّع القصص المألوفة جدًا، والتي ربما رأيناها في أروقة بيوتنا، لكننا كنّا نغُض الطرف عنها، بنفس لغة الحوار التي لا تحتاجُ إلى مجهود كبير لتأخذك إلى ذلك المكان الذي يشبه شارعكم للغاية.

 

“سابع جار” يحكي حكاية الطبقة المتوسطة شبه المنقرضة، بكل مزاياها وعيوبها ومشكلاتها، وتعثّرها في سداد القروض وأقساط المدارس، الطبقة التي طحنها الروتين تحت عجلاته، الطبقة التي يتأرجح أبناؤها بين المحافظة والالتزام والتمرد وتحدّي العادات، بينَ حضور دروس الدين وأعقاب السجائر، بين الإخلاص للبيت والأسرة والرغبة في التحرّر من ذلك كله وإيجاد المبررات لذلك.

 

يحكي المسلسل بأبسط الطرق القصة التقليدية للزواج الذي بدأ حالمًا، الفتاة الجميلة والشاب الوسيم، ثمّ تلاشي هذا الجمال شيئًا فشيئًا فلم يبق غير الروتين. الروتين الذي يحوّل الزواج إما لسلسلةٍ من المشكلات والشجار والصوت العالي واللوم والتقطيم من الطرفين، كما نرى في منزل “طارق” و”نهى”، أو إلى حالةٍ من الصمت المستمر والموت الإكلينيكي والمشاعر المكبوتة كما في حالة “عمرو” و”جيلان”.

 

“سابع جار” يصوّر نموذج الخوف من الزواج ومن العنوسة بامتياز في بيتٍ واحد، في الوقت الذي يبدو فيه خوف “دعاء” واضحًا من تقدّم سنها دون زواج وشبح العنوسة وبكائها في الليل بعدما صارت على وشك تصديق أنه لن يرغب فيها أحدٌ يومًا ما سوى المطلقين والأرامل والكهول، يظهر في السرير المجاور تخوّف أختها “هبة” من الزواج الذي يقودها إلى الهروب من أي علاقةٍ محتملة، فقط لأنها لا ترغب في التحوّل لأي نسخةٍ من نسخ الزواج التعيس المحيطة بها.

 

تشبهها في ذلك “هالة” ابنة خالتها والتي رغم جمالها الساحر واستقلاليتها التامة وتجسيدها دور الـ”سترونج إندبندنت وومن” بامتياز، لكن رغبتها الوحيدة هي أن يكون لها طفل، ترى في ذلك سعادتها الكاملة، لكنها أيضًا ترفض نموذج الزواج الحالي بكل ما فيه من مشكلات، تراها كل يوم في أبيها النصّاب أو زوج أختها الاتّكالي، وتدفعها الرغبة والخوف معًا إلى التفكير في حلول تبدو كارثية باعتبارها مبنية على المخاوف والرغبات فقط. كلٌّ منهم غارقٌ في مخاوفه الخاصة في النهاية.

 

حياتنا لم تَعُد على هذه الدرجة من العادية، أو ربنا صِرنا نجري ونلهث طيلة الوقت حتى صار صعبًا أن نلحظ ما يجري في واقعنا، لذا ألِفناهُ وأحسسنا بالارتباط معه حين رأيناهُ على الشاشة، صارَت الأمور معقدة للغاية، لم نعُد نعرفُ جيراننا على أي حال، بالكاد نميّزُ بعض الوجوه التي نلتقيها صدفةً في المصاعد أو في السوبر ماركت المقابل للعمارة.

 

منذ أن تكبّرنا على العادية وصرنا نُصِر على كوننا استثناءات وأننا لسنا أشخاصًا عاديين تمر بحياتنا نفس الكوارث التي تمر بحياة غيرنا، فارقتنا الأُلفة التي كانت تصحبُ تلك العادية، حتى وصلنا بالبؤس لمرحلة التعلّق بأحداثِ وشخصيات مسلسلٍ تليفزيوني، فقط لأنه يربطنا بواقعنا الذي نهرب منه أو نتكبّر عليه.

 

اختيرت أغنية من التراث للفنانة حورية حسن بتوزيعٍ جديد وبصوتٍ شاب لهبة يسري، مزجٌ لطيف بين الماضي والحاضر، لتأكيد حالة الحنين إلى الأُلفة التي يمثّلها المسلسل بكل محتوياته. أغنية “من حبي فيك يا جاري” والتي تعتبر أيقونة قصة الحب التاريخية لابن الجيران، والتي ربما لم يَعُد لها ذاتُ الرواج الآن، كانت أفضل اختيارٍ ممكن لمسلسلٍ من هذا النوع.

 

كُل ما سعينا إليه يومًا ما صار الآن يخيفنا بعدما وصلنا إليه. رغبتنا المفرطة في الاستقلال جعلنا نغلّق أبوابنا علينا، حتى صارَ النَّاسُ جميعًا وحيدينَ جدًا. تمرُّدُنا على العادي، ما زادَ حياتنا تعقيدًا وجفافًا وقسوة ووحدةً واعتقادًا أننا وحدنا هنا ولا أحد يشعر بما نشعر به. صارَ للأمر الواحد مئات الزوايا، وحتى الكلمات لم تَعُد أبدًا تحملُ نفس المعاني، خرجنا من واقعنا إلى واقعٍ جديدٍ خلقناه في عقولنا لكننا نسينا أن نصطحب معنا الأُلفة.

 

 

 

المقالة السابقةما هو جواز الصالونات؟ وما خطواته وعيوبه، هل يعتبر من الأشكال الناجحة للزواج
المقالة القادمةطريقة رسم ماندالا للمبتدئين: إليك كيفية رسم ماندالا ملونة بطريقة سهلة
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا