صفراء وجميلة

2789

بقلم: إيلاريا عزيز

لا أعلم كم كان عمري عندما أخبرتني صديقتي المقربة أن اللون الأصفر يدل على الغيرة. لم أُفكر من قبل عن دلالات الألوان. كل ما كنت أعرفه أني أكره اللون الوردي والأحمر وأُحب فقط الأزرق بدرجاته المختلفة. لم أكن أهتم حقًا ببقية الألوان، رغم حبي للرسم والتلوين. طالما تكدست فوق مكتبي العديد من علب الألوان المختلفة. كنت في التاسعة عشر من عمري حينما أهدتني تلك الصديقة باقة من الزهور الصفراء يوم عيد ميلادي. لم أحب لون الزهور كثيرًا، لكني كنت ممتنة لأنها كانت المرة الأولى التي أتلقى فيها بعض الزهور.

لا أستطيع التذكر متى أحببت الأصفر وبدأت أراه في كل شيء حولي، حتى أني فضلته أحيانًا على الأزرق. نعم، أعلم أنها خيانة للوني المفضل لكني لا أندم عليها. أذكر فقط أني كنت أتسوق ولفت انتباهي قميص أصفر ذو أكمام قصيرة، ووقعت في حبه حالما رأيته. أصبح قميصي المفضل وفكرت في شراء المزيد من الأشياء بنفس اللون أيًا كانت درجاته. وصل الأمر لدرجة أني استخدمت طلاء أظافر بلون الخردل كنتُ أشمئز منه قبلاً. إنه الحُب!

فجأة أصبحت عاشقة لزهور دوار الشمس والنرجس البري. كما لاحظت أني لا طالما أحببت أوراق الكتب العتيقة المهترئة الصفراء. كما أحببت طلاء غرفتي الأبيض المائل للاصفرار قليلاً. انتبهت إلى أني أحب لون الشمس حينما تشرق في شرفتي، فتحول الحوائط لدرجة أصفر نابضة مائلة للبرتقالي. حتى فاكهتي المفضلة الموز كانت تصطبغ بالأصفر. أحب أيضًا حبات الرمال الصفراء على الشاطئ مختلطة بزُرقة البحر والسماء. لقد كان هذا اللون يحاوطني طوال الوقت، لكني لم أقف ولم أتأمله.

كان دافئًا مثل راحتي يد أمي. مبهج كضحكات أختي الصغرى. مليء بالقوة ككلمات أبي. ذا تأثير كأفكار أختي الكبرى. أصبحت أسير في الشوارع بحثًا عنه في ملابس المارة وواجهات المتاجر. لم يصبح مجرد لون، بل هو كل ما أحتاجه للتعبير عن أفكاري. قيل لي إنه لون عدائي، أناني، متسرع، جبان، وبارد عاطفيًا. لا أستطيع تصديق تلك الصفات عن ذلك اللون، فكلما أحببت تمتلئ عيناي به، كلما أحببت أرغب في إعطائه لمن حولي، كلما أحببت تصرفت فيه بروية، وكلما زدتُ شجاعة، وكلما دق قلبي.

عندما وقعت في الحب للمرة الأولى كنتُ أُرسل قلبًا أحمر في نهاية كل رسالة. لم تخلُ كل محادثاتي علي وسائل التواصل الاجتماعي من ذلك القلب الأحمر، حتى تعبيري عن آرائي غالبًا ما انتهى به أيضًا. كنتُ أُحب ذلك اللون الأحمر القاتم الذي يعبر عن سريان الدم في شراييني وكأنني أعيش للمرة الأولى! انفطر قلبي بعدها وحُبي الأول قرر تركي، ولكنني لم أترك القلب الأحمر. أحببتُ مرات عديدة بعد ذلك ولكني لم أتخل عنه قط. وكأني كنت أرغب في تذكير نفسي أن الدماء ما زالت تُضخ في جسدي، وأن قلبي لن يتوقف حتى لو انفطر مرة بعد الأخرى.

كانت المرة الأخيرة التي تعرضت فيها للخذلان مختلفة تمامًا عن سابقاتها. شعرتُ أن جُزءًا من قلبي انخلع خارج صدري مُخلفًا ندبًا كبيرًا بارزًا. لم تدُم علاقتنا طويلاً، فقط بضعة أشهر. ولكني لا أعلم لم ما زلت أشعر بذلك الجرح العميق الذي يأبى الالتئام. أستعجب قدرتي على مواصلة الحياة دون أن أبكي كعادتي ودون أن ألعن القدر. أستمر في الاستيقاظ وممارسة الحياة بالقدر المتبقي لي من الطاقة التي تم استهلاكها على مدار السنوات الماضية.

لا أعلم لم تقبلت الواقع المرير بسهولة وهدوء لم أعتدهما. فقط قال لي وداعًا فرددتُ بمثلها وأوليت ظهري ولم أنظر للوراء. شعرتُ بقوة رُغم انكساري. كنتُ حزينة كئيبة شاحبة، ولكني عقدت العزم على المُضي قُدمًا. كنتُ أرغب في سماع أسباب مقنعة، كنت أرغب في طرح الكثير من الأسئلة. كنتُ أرغب في التعبير عن غضبي. كنتُ أود الصراخ وضرب الأرض بقدمي إعلانًا عن احتجاجي، لكني التزمت الصمت.

قررت يومًا ما بدون مقدمات أن أتخلى عن القلب الأحمر واستبداله بقلب أصفر. سألني العديد من الأصدقاء لم قُمت باستبداله وكانت إجابتي واحدة: “التغيير مطلوب”. حقًا بداخي لم أكُن مقتنعة بذلك الجواب السخيف. فقط لم أُرِد أن أتحدث كثيرًا. رغبتُ في الاستمتاع بقلبي الأصفر في صمت دون تدخلات أو أي فضول. علمتُ يقيناً حينها أني قد تغيرت.

لم أتغير للأسوأ أو للأفضل، فقط تغيرت. اخترتُ الأصفر لأنه غالبًا لا يلقى اهتمامًا لائقًا به، ولكنه يظل ثابتًا. أكره حر الصيف ولكنني أحب الشمس وأشعتها الصفراء الذهبية. أبحث عن الشمس وسط غيوم الشتاء وحينما أرى خيوطها اللامعة أجد نفسي أركض لأحتضنها، رغم هروبي منها صيفًا. أخذلُ لوني الأصفر في بعض المواسم، لكنه يظل في انتظاري مهما ركضتُ بعيدًا عنه.

أحزن حينما أسمع مصطلح “ابتسامة صفراء” فاللون بريء من الكذب والنفاق اللذين يلحقانه به. سأظل “صفراء وجميلة”. سأمضي في الحياة بابتسامة تكشف عن أسنان مائلة للصُفرة. سأرتدي الكثير من القمصان الصفراء. سأُعيد طلاء غرفتي بدرجة داكنة من الأصفر. سأزرع النرجس البري في شرفتي. أغلب الظن أني قد أفتح قلبي للحُب مرةٍ أخرى إذا استطعتُ، ولكن تلك المرة سيكون قلبي أصفر دافئ مُبهج، قوي، مؤثر، وشُجاع.

اقرأ أيضًا: مانديلا ملونة كالحياة

المقالة السابقةأنتِ لستِ السبب: 4 أعمال فنية عن التحرش وأشياء أخرى
المقالة القادمةقلق الامتحانات: 8 خطوات تساعد أبنائك على التخلص منه
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

5 تعليقات

  1. أول مـرة في حياتي يلامسني گلام
    ويغوص إلى أعماق قلبي
    و أنا بدأت أحب الأصفر لأن من أحبه يحبه
    كما قُلتِ أنتِ ( إنه الحُب )

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا