لولا الكتابة ما كنت هنا

1082

بقلم: هبة هنداوي

متى نغضب؟

نغضب عندما تتفاعل مشاعرنا مع موقف لا يعجبنا، أو ربما يصيبنا بالإحباط أو الشعور بالظلم. ولكن هل نغضب جميعًا لنفس السبب؟ وهل تكون ردود أفعالنا واحدة عند الغضب؟ بالطبع لا فما يغضبني ويثير حفيظتي ربما يتقبله شخص آخر ولا يراه سببًا كافيًا لأن تتحرك مشاعر الغضب والرفض بداخله. وكما تختلف أسباب الغضب تختلف ردود الأفعال كذلك. تتفجر داخلنا شحنة من المشاعر السلبية الرافضة لما حدث، والتي تود لو أنها تستطيع تغيير الواقع وفقًا لما نراه مرضيًا لنا. نكتم الغضب فيتحول لبركان، يأكل النفس من الداخل وينفث الشرر في الخارج. عند الغضب نصرخ، نسخط، نضرب الأرض بأقدامنا، نقطب الحواجب أو ربما نتفوه بعبارات لاذعة. لكن هل نكتب؟ الكتابة وسيلة رائعة لإخراج كل شحنات الغضب والمشاعر السلبية حتى تتحسن حالتنا المزاجية. عندما نكتب ما يزعجنا أو ما يؤلمنا على الورق ثم نعود لنقرأه بعد أن نهدأ، سنجد أننا نشعر بتحسن، وستخف حدة الغضب، بل لربما نفاجأ أن الأمر لم يعد يضايقنا.

في الحزن والفرح

ساعدتنا وسائل التواصل الاجتماعي الآن على الكتابة في الحزن والفرح. أصبحنا نكتب كل يوم على فيسبوك وتويتر وإنستجرام، لكنها ليست كافية، بل ربما تكون في أحيان كثيرة كتابات غير صادقة وغير معبرة حقًا عما يدور بداخلنا. لعل من الأفضل أن نختلي بأنفسنا بعيدًا عن ضغوط مواقع التواصل الاجتماعي، ونكتب ونخرج مشاعرنا دون رقيب ودون متابعة من عيون متربصة، نحمل همها أحيانًا أو تشغلنا دقات الإعجاب والمشاركة عن جودة ما نكتب أو أصالته. أكتبي ما يزعجك لتعيدي تقييمه بعد أن تنقشع سحب الغضب ودخان السخط. أكتبي لتخرجي مشاعرك. أكتبي وستفاجئين بالكثير من الأفكار والمشاعر التي لم تدركي وجودها بداخلك.

في الغضب

بالنسبة لي كانت الكتابة رفيقًا مخلصًا في أحداث قصتي “أنا وابني وست أرجل”. تعددت المشكلات لكن كانت الكتابة ملاذي الآمن. عندما نحصر المشكلات التي واجهتني في القصة نجدها تبدأ بقبول السفارة الكندية منح الأب تأشيرة السفر، وحرمان بقية أفراد الأسرة منها. صدمة لم تكن في الحسبان، أغضبتنا، وجاء الخطاب المرفق الذي يوضح أسباب الرفض الستة، سببًا آخر لإشعال مزيد من الغضب. كانت الكتابة هي وسيلة الاعتراض الوحيدة التي أملكها. إن لم تغير الأمر فعلى الأقل ربما تشفي غليلي وتهدئ من لوعتي.

لملمت شعاث نفسي وقرأت رسالة الرفض أكثر من مرة، لأرتب أفكاري وحججي. فتحت بريدي الإلكتروني وبدأت الكتابة التماسًا للقنصل، وذكرت كل أسباب الرفض، وفندتها سببًا سببًا، وطلبت إعادة النظر في ملفي. كم كنت في غاية الامتنان للغتي الإنجليزية القوية التي مكنتني من التعبير عن مكنون صدري، ومحاججتهم بالبرهان القوي لبطلان كل ما ادعوه من أسباب. أنهيت رسالتي وضغطت زر الإرسال، وانزاح ثقل جثم على صدري لعدة أيام. شعرت براحة شديدة عندما أفرغت شحنة غضبي وعدم رضائي عن الرفض. عادت أنفاسي للانتظام مرة أخرى وهدأت في انتظار الرد.

في المرض

مرضت خالتي وتعذر الكلام، أعطيتها قلمًا وورقة، لكنها عجزت عن الكتابة. كان الحل وهداها تفكيرها للوح به حروف الهجاء. وظلت بجوارها يومًا كاملاً في محاولة لفك شفرات ما ترغب في قوله. كانت “عائشة” تشير للحرف وخالتي تومئ برأسها إيجابًا أو تعقد حاجبيها رفضًا.

مرضت أمي وعجزت عن التواصل، في البداية كانت تكتب ما تريد قوله، ثم ضعفت عضلات اليدين، فأصبحت الكتابة أمرًا شاقًا ثم مستحيلاً. وبعد وفاتها امتلأت نفسي بخليط من مشاعر الحزن وألم الفراق ورهبة الموت وتأمل النهاية، لكنني شعرت أنني أريد أن أنفث عما في صدري من مشاعر مختلطة برهبة الموت، وكتبت ما جاش في صدري، وشاركني أصدقائي في تأملاتي الفلسفية التي ولدت من رحم التجربة المريرة، التي استمرت لسنوات عديدة.

بدأ ابني يعرج بلا سبب واضح. ألم في عظمة الفخذ ثم اكتشاف مرض نادر، “ليج كالفيه بيرثيز” أو نخر العظام عند الأطفال. مرض نادر غير معتاد يمنع وصول الدم لرأس عظمة الفخذ، مما يسبب تآكلها وانهيارها، ولا توجد مصادر كافية من المعلومات عنه باللغة العربية. رحلة بحث عن ماهية المرض عبر شبكات الإنترنت، وتواصل مع مجموعات الدعم الأجنبية من أسر يعاني أولادها من نفس المرض. ثم مع ارتفاع وتيرة أحداث قصتي، قررت العودة لشغفي القديم بالكتابة، فلطالما استهوتني الكتابة في كل مراحل عمري.

كنت قد بدأت مدونة باللغة الإنجليزية سردت فيها تجربتي مع مرض ابني، ولاقت استحسانًا وقبولاً من كل من قرأها. خاطبت في مدونتي كل أم استيقظت لتجد أن صغيرها المفعم بالحيوية تبدلت حاله بين عشية وضحاها، كما خاطبت كل بطل صغير تحمل مرضه في صلابة وقوة. كان هدفي التالي هو الكتابة لمخاطبة القارئ العربي، لقلة الموارد التي وجدتها حول هذا المرض باللغة العربية. لا شك أن هناك من هم في مثل حالنا ولا يعرفون سبيلاً للراحة.

مع تطور الأحداث، كانت الكتابة ملاذي الآمن، وقررت كتابة تجربتي لعلها تكون مرشدًا لكل قارئ مر بتجربة مرض أو أي تجربة أخرى آلمته أو تؤلمه. لقد لازمتني الكتابة في كل موقف، وفي نهاية المطاف كان لا بد من أن أتجاوز مرحلة الكتابة للنفس، للتنفيس عما يدور بداخلها، لمرحلة مشاركة الآخرين بكل ما تعلمت في رحلتي. ساعدتني الكتابة على تخطي مرحلة الغضب، كما ساعدتني على التواصل مع الآخرين، والبحث عن حل لمشكلة ابني. ثم ظهر دورها في تبادل الخبرات مع مجموعات الدعم، وأخيرًا في تحويل المحنة إلى منحة، بتدوين تفاصيل الرحلة وبث الأمل في نفوس المحيطين، ليذوقوا حلاوة النجاح بعد المشقة.

قررت كتابة أهم خطاب في حياتي

أيها الابتلاء.. شكرًا لك! نعم شكرًا لك لأنك منحتنا القوة والإصرار وعلمتنا معنى العزيمة. أيها الابتلاء شكرًا لك لأنك أخرجت طاقات لم نكن نعلم بوجودها من الأساس. لقد اشتدت الغيوم وأظلمت السماء يومًا، ولم نكن نتخيل أن الغيث سيسبغنا بالنعم بعدها.

اقرأ أيضًا: التوثيق لانكسارنا وانتصارنا.. لماذا أحب الكتابة؟

المقالة السابقةThe Haunting of Hill House: بعض الأشباح أمنيات
المقالة القادمةحب يستحق التعب
مساحة حرة لمشاركات القراء

1 تعليق

  1. من اروح المقالات التي اقرائها والرقي فعلا رائع احيكي حبيبتي والله انك لملهمة وناشره الأمل.. شكرا ايها الابتلاء فعلا فقد لمس كلامك قلبي بشده 🖤🖤

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا