بقلم: دينا يسري
اختبرت الوحدة مبكرًا، فكنت فتاة جدتي المدللة، تأخذني معها أينما ذهبت، فكنت عكازها الذي تتكئ عليه، لكن مكانًا واحدًا ما زال محفورًا في ذهني: مكتب التأمينات. فهناك يتقابل كل كبار السن من الجنسين، وجوه بيضاء تشوبها التجاعيد، أجساد مترهلة، يلتقون يومًا في الشهر يتسامرون يتصافحون يضحكون كما لو أنهم أطفال في الروضة، المحظوظ فيهم لديه قريب يسنده، ومن ليس لديه فعكازه السند.
جدتي مديرة المدرسة الابتدائية كانت تعرف أكثرهم، فكانت تسلي طريقنا للمنزل بقصصهم، من يعيش وحده، ومن تركها أولادها وسافروا، ولم أكن أتخيل حينها أن نصيبي في الحياة سيكون أيضًا السفر، لأختبر كل هذا الكم من الفقد، فقرأت في كتاب ما عن العلاقات النفسية أن حياة الإنسان تصبح ذات أهمية حين يشعر بأنه محبوب ومرغوب، وأن هناك من يتقبله، فأحاول أن أملأ تلك الفراغات بنفسي، أطبق ما أقرأه لأعرف ماذا أريد.
أحفز نفسي بالكلمات، تمرينات اليوجا، صفاء الذهن، والكثير من التنفس لأُخرِج أشباح الطاقة السلبية، وها أنا كعادتي أفتح صفحة بيضاء أحاول ملأها بما يجول بخاطري ويثقل كاهلي، دون أن أعير أهمية للمسموح والممنوع للحذف والبتر.
فيما مضى منذ أكثر من عشر سنوات، كنت أشغل بالي ماذا سيحدث بعد مرور خمس سنوات، أتخيل وأسترسل في الأحداث التي أتمنى حدوثها، طرحة بيضاء ثم بيت وطفل. أما الآن بعد مرور كل تلك السنوات، كان للقدر رأي آخر، نادرًا ما يثير إعجابي، لكنني أرضى به، من باب أنه لا مفر.
مؤخرًا عزفت عن تلك اللعبة السخيفة، فكنت أظن أن الحياة مع رفيق يجمعكما الحب سيجعل الوحدة أكثر لينًا، لكن تفاصيل اليوم الكثيرة المزعجة ما بين عدد ساعات العمل، والتنقل في المواصلات، وشراء طلبات المنزل، وعبء تحضير الطعام، وكي القمصان، وصغير لا يكف عن الطلبات، والتفكير في إرضاء الغير على حساب ما أرغب به، مزعج، لا يترك مساحة للتنفس، فاللهث وراء تفاصيل كثير منها لا يخصك شيء مؤلم، وقد فات وقت الرجوع خطوة للوراء، لم تكن تلك الحياة التي وددتها، حتى أدركت أنها هي التي اختارتني.
أحاول تشجيعي وحثي على المثابرة، فخلقت حالة لنفسي من الصحبة والونس، حتى رزقني الله بصغيري آسر، الذي أحيانًا يصبح كل ما أملك وأحيانًا يفسد ما أملك. نعيش الـ24 ساعة بطولها معًا، نتشارك كل التفاصيل، يشبهني في كل ملامح الوجه، كلما زاد يومًا في عمره زدنا تفاهمًا وقربًا، وعلى ما يبدو أنه أيضًا يعاني الوحدة، فكثيرًا ما طالبني بأخت تشاركه تفاصيل يومه لبعدنا عن الأهل، ولم أكن أعرف أنني حين كنت ألهيه بالدعاء إلى الله بأمنيته بأنه سيستجيب لطفل، وها أنا في شهري السابع، ولا أعرف بماذا كان يفكر الله حين رزقني للمرة الثانية، فأستطيع السهر برضيع ولا أستطيع صبرًا حمله تسعة أشهر بداخلي.
لا وقت لأمارس ما أحبه. أشعر أن وظيفتي في الحياة أم، صحيح أنها وظيفة من حرفين لكنها مرهقة، تستهلكني. أعلم أن الحياة ستغدو أكثر صعوبة، خصوصًا عندما لا أجد الدعم المناسب من أقرب الأشخاص إليّ، وأن الوحدة بداخلي ستصبح أكثر عمقًا، ولكن سأحاول ألا أبالي، سأخلق بداخلي مساحة جيدة للتنفس، سأستخدم خيالي الخصب ومن وقت لآخر سأتخفف من أعبائي، فكلما زاد الحمل عرفت بأنني أكثر قوة لأستطيع، وأن ما أجَّلته لأربع سنوات لن يخسر شيئًا لينتظر أكثر، فيومًا ما ستجري أحلامي ورائي. ولن أشغل بالي بهؤلاء الذين يقارنون بيني وبين أخريات متحققات في أعمالهن لا يحملن سوى مسؤولية أنفسهن.
اقرأ أيضًا: الأمومة.. المرادف الجديد للوحدة