تحرير المحضر بحبر أحمر قاتم

841

بقلم: رانيا طارق

الرابع عشر من یونیو، الساعة 8:50 مسا ًء..

تحركت تموجات العربات في صفوف مضطربة، تسارع عقارب الساعة ویخنقها الزمن. تدلى من شرفات المنازل غصون یابسة تالفة، مر علیها وقت لا یعلمه أحد. تشققات تملأ زوایا الأرصفة وبشر متزاحمون یدفع بعضهم بعضًا، تنتاب المدینة حالة من الهرج والمرج بلا وجود حرب أو احتفال قادم. أصوات العصافیر وخریر الماء وحفیف أوراق الشجر تخفت شیًئا فشیئًا، تتجه أم ثلاثینیة أو أكبر ببعض الأرقام إلى قسم أول مدینة نصر. انتباتها قشعریرة غریبة على حین غرة وشعرت بدوار بسیط. دفع قلبها النابض بحرارة الدم إلى أطرافها، فجعلها تسیر رغم وهن امرأة في التسعین.

دخلت برجلها الیمنى وهي شاردة النظر في البوابة الحدیدیة الصدئة. تنبهت حواسها على صوت رجل ضخم یلقي بألفاظ كریهة وغریبة هنا وهناك، حتى أحست أن طبلة أذنها قد ثقبت. تابعت السیر مرتعدة ومنتبهة انتباه جندي یراقب عدو. كانت ترتدي عباءة زرقاء صافیة بلون عینیها. ولكنها شعرت بأن أعین كل من بالمكان تترصدها. أخذت تسرع من خطواتها، حتى سألت الصول الواقف عن الضابط. أرشدها إلى الغرفة المقابلة لمدخل القسم.

دخلت غرفة ضیقة لا یتسع فیها الهواء، أو هكذا شعرت هي. ألقت سلامًا مبحوحًا على الضابط الجالس وراء مكتب خشبي متحلل. لم یعرها انتباهًا شدیدًا وقال ببرود تام: “تفضلي”. كان بالغرفة متهمان وكاتب محضر وسیدة عجوز، وبعض النظرات المریبة، وترددات أصداء أصوات وتجهم یعلو الوجوه، ونافذة مغلقة. استغلت الأم هذا الوقت في مراجعة كلامها واستحضار صورة الواقعة في شيء من الخذلان والخجل المشبع بغضب بركان ثائر. أغلق كاتب المحضر أوراقه وأمر الضابط العسكري الواقف في الخارج بأخذ هذين المتهمين. أشعل سیجارة وأخذ ینفث الدخان في وجه الأم، وبعد مرور دقیقتین قال لها: “تفضلي، ما هو بلاغك؟”.

لم یكن ینقصها خنقه الدخان فوق خنقتها، فقالت في سرعة من ینتظر إظهار براءته: “ركبت من رمسیس حافلة تحمل الرقم 1، لم یكن هناك مكان للجلوس أو الوقوف إلا في مربع اتنین سنتي في اتنین سنتي، كنت مرغمة، فقد تأخر الوقت وإرهاق العمل جعلني أُلقي بنفسي في أي قارب نجاة. وبعد دفع الأجرة شعرت بنظرات تخترقني. وتلامسني في كل مكان. حاصرتني ولم أستطع التحرك لجمود الدم في عروقي. ولم أنظر خلفي، ولكنني جلست الحمد الله بعد وقت قصیر بقرب سیدة عجوز بعد نزول راكب كنت أقف عند كرسیه. وأخذ متسلل یقف بجانبي یخبط في.

في الأول ظننت أنه بفعل دفع بقیة الركاب له والمطبات وحركة الحافلة غیر المنتظمة، أو هكذا قال لي في كل مرة استأذنته في الابتعاد قلیلاً. ولكن لم یُفترض مني حینها إظهار المنطق والنظریات العلمیة أو إبداء حُسن النیة. نعم، أقول لحضرتك إن في ذاك الوقت تمنیت لو لم یكن لي عقل بالأساس أو قلب یقدر. هل أخلاقي كانت السبب؟ هل كان عليَّ أن أسيء لكل غریب؟ هل أنا ساذجة بعد حصولي على شهادة الدكتوراه الأسبوع الماضي؟ هل كان عليَّ أن أبحث عن هذه الظاهرة بدلاً من بحثي في الكوارث الطبیعیة وكیف ُیمكن حمایة الناس منها؟ ءأنا السبب؟ ولكني عندما رفعت صوتي الذي عاندته كثیرًا لكي یخرج، لم یلتفت أحد وكأنه اتفاق بین الجمیع”.

صمت یحوم في المكان دام خمس دقائق، وسحابة معتمة كست الغرفة. وارتفعت دقات قلب كل من الضابط وكاتب المحضر على عكس دقات الأم التي خمل قلبها وأغلقت عینیها تشاهد ألوان طافیة في فضاء. لیكسر الصمت الضابط وهو یحاول إیجاد إجابات: “تمام جدًا، لقد فهمت ملابسات الواقعة، ولكني أیضًا لا أستطیع أن أعدك بالقبض على المتهم، فكأننا نبحث عن إبرة في كومة قش. أو لنقل عن إبرة في كومة شوك. ولكن أتذكر البارحة وصول بلاغ مماثل من فتاة في السادسة عشر عن حافلة بنفس الرقم. كان اسمها هدى على ما أعتقد. ولم یكن معها ولي أمرها، فلم نستطع فعل أي شيء”.

أعطاها الضابط ورق المحضر الذي أغلق قبل أن یُفتَح. مرت عیناها مدققة ومتفحصة الحبر الأحمر القاتم الذي یملأ الأوراق، وفي النهایة وجدت نقطة داكنة عن باقي الكتابة الموجودة، لتجد نفسها ترفع بصرها مرة أخرى إلى الاسم الذي نطقت به أول مرة من ستة عشر عامًا مضت، فتنزل خیوط متعرجة على صفحة وجهها بلا أي صوت.

تغلق المحضر وتقول للضابط: “آسفة على المجيء هنا، في المرة القادمة سوف أُمنطق مبدأ الجریمة وأكتب المحضر بنفسي”. خرجت ببطء تجر أذیال الخیبة، لتتحول عیناها الصافیتان إلى بحر من الدم. وتجد حاجبیها یطبقان على بعضهما في منظر یرعب كل من ینظر إلیها، وخیوط ما زالت تسیل وتبلل أرض القسم. قطرات تركتها وراءها یدهسها من في المكان. تتلاقى نظراتها مع البوابة الصدئة من جدید بخيبة تردد “حسبي الله”.

اقرأ أيضًا: التحرش والصحة النفسية للمرأة: قصص من الواقع

المقالة السابقةإلى مريم في بيروت: راح نتلاقى يومًا ما
المقالة القادمةلوحات إدوارد هوبر: كيف صارت حياتنا مشاهد منها؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا