لوحات إدوارد هوبر: كيف صارت حياتنا مشاهد منها؟

4716

إدوارد هوبر (1882-1967) رسام أمريكي واقعي يصور المشاهد العادية من حياة المدن. وتجسد لوحاته العزلة والصمت واغتراب الإنسان في المدينة. هكذا تعرف به ويكيبيديا.

في مارس الماضي كتب جوناثان جونز في الجارديان مقال بعنوان: كلنا الآن في لوحات هوبر: هل هو فنان عصر الكورونا؟ وبالفعل تبدو لوحات هوبر -رغم بعدها الزمني عنا- وكأنها تمثل ما نعيشه اليوم، هذه العزلة التي تمنح كل منا فقاعته الخاصة وتلفها عليه بإحكام ليسير وحده بين الآخرين. هذا التباعد الاجتماعي الذي فرض هذه المسافة بيننا وبين الآخرين. كل النصائح والفيديوهات حول طرق المصافحة بلا تلامس، والتي حلت محل الحضن الدافئ. والكمامات التي تخفي وجوهنا في الشوارع وتزيد من العزلة

قاعات السينما الخالية، الخوف المتبادل في أعيننا، كل هذه الأمور تبدو وكأنها طبقات إضافية من عزلة موجودة بالفعل، عزلة كنا نعيشها قبل كورونا، وكل ما حدث أنها أضافت إليها طبقات جديدة، وكأنها فقط زادت من سماكة جدران الفقاعة. نختفي الآن خلف الكمامات، ومن قبلها كنا نختفي خلف صفحات شاشاتنا، نبث صورًا لحياة لا تشبهنا، ونتابع حيوات نتمنى أن نحصل على طرف منها.

تُصوِّر لوحات هوبر عزلة نعيشها اليوم، عزلة ووحدة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، فعلى حد قوله: “لايوجد سبب لرسم ما يمكنك التعبير عنه بالكلمات”، إنها لقطات متجمدة، لمشاهد يومية، تعبر عن هؤلاء الأفراد، ساكني المدينة الكبيرة الغارقين في الصمت، والغارقين في الوحدة.

لوحة “صقور الليل”

إدوارد هوبر
لوحة صقور الليل

الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء، وإنما للعابرين في القطارات أو المقاهي العابرة – بهاء طاهر.

لا يبدو صدى لمقولة الروائي بهاء طاهر في هذه اللوحة. لوحة “صقور الليل”، أشهر لوحات هوبر. الغرباء هنا منعزلون، لا يبحث أحد فيهم عن عابر يشاركه سره. لكن كلاً منهم يلتف على ذاته، ويوصد أبواب عزلته. هؤلاء الذين لم تحتضنهم البيوت، فمضوا في الطرق والمقاهي والمطاعم شبه الخاوية.

يظهر في اللوحة 4 أفراد: النادل وامرأة ورجلان، أحد الرجلين يولينا ظهره. ورغم أن الرجل الآخر يجلس إلى جوار المرأة فلا يظهر لنا بوضوح إن كان ثمة علاقة تجمعهما أم أن كلاً منهما بمفرده. تبدو الوحدة جلية في الوجوه، وفي تعبيرات أجسادهم. كل منهم منفصل في عالمه، ولا يظهر في اللوحة باب للدخول أو الخروج إلى هذا المطعم، مما يضاعف الشعور بالعزلة.

أفكر في أنني ربما شاهدت هذا المشهد مرة أو اثنتين أو عشرة، في مقهى بوسط البلد، أو مطعم في المعادي. نفس الوحدة، والوجوه المنعزلة رغم الزحام. ربما أضيف إلى المشهد شاشات هواتف محمولة، وكل منهم يحملق في هاتفه.

لوحة “المطعم الآلي”

لوحة
لوحة “المطعم الالي”

عُرِضَت اللوحة ﻷول مرة في يوم عيد الحب عام 1927، وتظهر فيها امرأة أنيقة، مما يوحي بكونها في طريقها من أو إلى العمل، أو لحضور مناسبة اجتماعية ما. تشرب قهوتها وحيدة في مطعم، أشار عنوان اللوحة إلى أنه “مطعم آلي”. والمطعم الآلي هو مكان لبيع الوجبات السريعة عن طريق الآلات. (ظهرت هذه المطاعم للمرة الأولى في برلين عام 1895، وظهرت في الولايات المتحدة ﻷول مرة عام 1902). إنه مكان يمكن لامرأة حية أن تتناول قهوتها فيه دون أن تضطر ﻷي تواصل إنساني من أي نوع؛ لا وجود لنادل أو بائع، وكما تبدو في اللوحة وحيدة وكأنه لا وجود لزبائن آخرين. وحيدة مع فنجان قهوتها وأفكارها، ومقعد فارغ أمامها. هل تنتظر أحدًا؟ أم أن أحدًا ما تركها وحيدة ورحل؟

Chop Suey

هوبر
لوحة “Chop Suey”

نطل من خلال هذه اللوحة على امرأتين تجلسان في مطعم صيني، تواجهنا واحدة وتولينا الأخرى ظهرها. هناك معطف معلق خلف إحداهما، وفي الخلفية رجل وامرأة. تفاصيل اللوحة غير واضحة، لكني أستطيع شم دخان سيجار الرجل الجالس في الخلفية، وسماع ضجيج الزبائن الخافت. وربما بالقليل من التخمين بإمكاني استدعاء الحديث الدائر بين المرأتين.

هل هما صديقتان؟ هل هو لقاء سريع تهرب كل منهما فيه من أعبائها اليومية؟ أم أن جدلاً ما يدور؟ ربما شعور بالخذلان المتبادل! لا أحد يدري. بعض النقاد يرون في تماثل القبعة على رأس المرأتين أن كلتيهما نفس الشخص، وكأن المرأة تقابل شبيهتها، أو ببساطة تتناول وجبتها بصحبة نفسها.

لوحة “شمس الصباح”

ادوارد هوبر
لوحة “شمس الصباح”

هذه المرأة تجلس في ثوبها المنزلي، في مواجهة النافذة، وحيدة على فراشها، كل شيء هنا يوحي بالوحدة: جلستها، ضمة ذراعيها حول الركبتين، وجدران الغرفة العارية تمامًا من أي لوحات أو زينة، نظرة العين الخاوية. هل أوحى لك اسم اللوحة ببعض الأمل؟ للأسف لا يبدو أمل هنا! فشمس الصباح تبدو وكأنها كاشفة، تعري الألم والعزلة التي تواجههما هذه المرأة. امرأة وحيدة تواجه النافذة، أو لعلها تفكر في القفز منها!

فيلم نيويورك

لوحات
لوحة “فيلم نيويورك”

إنها قاعة السينما، الفيلم يدور على الشاشة، في الظلام تظهر رؤوس الحضور المندمجين في العرض، وفي المدخل قرب السلم تقف امرأة وحيدة تستند رأسها إلى كفها، تبدو منهمكة في أفكارها الخاصة، بعيدًا عما يعرض على شاشة السينما، وبينما تغرق قاعة السينما في الظلام، تقف هي تحت الضوء القوي، وتظهر الألوان في جانبها أكثر سطوعًا. هل هي عاملة بالسينما، أم أنها مشاهدة شعرت بالملل ولم تستطع الاندماج مع الدراما المعروضة على الشاشة، وفضلت أن تستغرق في التفكير في دراما حياتها؟ أم لعلها كانت بانتظار شخص ما ولم يظهر، فظلت عالقة بين الشاشة وبوابة الخروج.

لوحة “المقطورة سي”

لوحات
المقطورة c

مسافرة وحيدة على القطار، بلا رفاق، منشغلة بالكتاب في يدها عن النظر عبر النافذة، هل هي منشغلة بالكتاب حقًا، أم أنه فقط وسيلة للهروب من أفكارها وعزلتها؟ تمنحنا القطارات هذه الفرصة للتأمل والتفكير، وهو ما جعل عربات القطار مسرحًا لأكثر من لوحة من لوحات هوبر، سواء هذه اللوحة أو عدد آخر من لوحاته، التي اتخذت من محطات القطارات وعرباتها مسرحًا لها، وكلها أكدت نفس العزلة.

حين تكونين وحيدة تتغير نظرتك للأشياء، تصبح أكثر قربًا، تغسلين الصحن مرتين، لا تطيقين ذرة غبار فوق إطار صورة أو كتاب، كم أكره الغبار! لا تستطيعين أن تعرفي من أين يدخل، حتي لو أحكمت إغلاق النافذة، الباب، وأبقيت حذاءك في الخارج، لا تستطيعين أن تطمئني، قد يغطيكِ دون أن تنتبهي. يدفنك بهدوء مميت، كأنه الزمن، كأنه النسيان. يا سلوى سأقول لكِ شيئًا: أنا لا أخاف الزمن، لكنني أرتعد أمام النسيان” – من رواية إبراهيم نصر الله: زيتون الشوارع.

هذه العزلة التي تلف لوحات هوبر، يبدو وكأنها تلفنا أيضًا، كأننا نتحرك في لوحات منعزلة. لوحات تفتح نوافذ على عزلتنا التي لا يطلع عليها أحد ويتشاركها الجميع.

اقرأ أيضًا: من هي فريدة كاهلو: صدمات عديدة ورحلة علاج بالألوان

المقالة السابقةتحرير المحضر بحبر أحمر قاتم
المقالة القادمةمسلسل Modern love: عن الحب والدعم غير المشروط

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا