إلى مريم في بيروت: راح نتلاقى يومًا ما

928

بيروت

شارع مارإلياس
أول مفرق مقابل فرن الشامي.
الطابق السابع ببناية الهاشم بجانب جامع الفتوة
جواب بعلم الوصول..

عزيزتى مريم صباح الخير.

أشتاق إليك كثيرًا.

كيف الحال؟ أكتب لك هذا الخطاب الإلكتروني، بعد أن صار  “اللقا” صعبًا.

هل هو صعب أم  مستحيل؟

لا أدري، كثيرة هي الأسباب وقليلة هي المسكنات التي قد تتاح لقلوبنا الصديقة منذ سنوات طوال. فالمكالمات الهاتفية أو حتى الفيديو لا تغني ولا تسمن من جوع أبدًا. كنت أريد الاطمئنان عليكِ بعد هذا الانفجار الرهيب الذي رأيته،  والذي هز بيروت الحبيبة.

أخبرتني في مكالمتنا الأخيرة التي لم تستغرق دقائق أنك بخير. هل كنت حقًا كذلك؟ أم كما هي عادتك التي أعرفها، تحاولين التماسك والالتزام بمظهر الفتاة القوية الهادئة التي لا تأبه لشيء؟

ذكرياتنا في شوارع بيروت

أعرفك يا مريم كما تعرف الأم وليدها، كما يعرف الزهر أولى نسائم الربيع فيهتز طربًا ويفتح ذراعيه للحياة، كما تحس قلوبنا بمن نحبهم دون أن ينبسوا بكلمة، أعرف تلك البراءة التي تحاولين إخفاءها خلف قناع الحياد وأحيانًا القوة، تلك المشاعر الفياضة التي ترسمين لها حدودًا صارمة، حتى لا تظهر فنكتشف معها مدى رقتك، بينما ترينها أنتِ ضعفًا.

أتذكر أول لقاء لنا، في أحد المطاعم البيروتية العتيقة، بدأنا الحديث فيه منذ 5 سنوات عن الحب، ولم نتوقف منذ حينها، ظللنا نحكي ونحكي دون أن ننتبه للوقت، نبكي حينًا ونضحك من قلوبنا حينًا آخر، كأننا نعرف بعضنا البعض منذ كنا صغارًا وليس منذ دقائق معدودة. ما زلت أذكر طاولات المطعم المزينة بمقاطع من أغاني فيروز، ضحكنا على مقطعنا، وتساءلنا بدهشة عن مدى التطابق بينه وبين حالنا: “حبيتك تنسيت النوم”!

تجولنا في شوارع بيروت، جبيل، حريصا، وادي قديشا، بشرى، دير القمر.. نأكل، نضحك، ونشاهد الطبيعة وآثارها، تشرحين لي معالم بيروت، نلتقط الصور التذكارية بلا توقف، كأننا جوعى لطعم الحياة، ننهل منها بلا توقف.

لبنان
في شوارع بيروت

لبنان حي

كان أكثر موقف هز قلبي عندما حضرنا معرضًا عن آثار اجتياح وقصف بيروت، وبدأت أبكي من هول الصور، وبدأتِ أنتِ تطبطبين بيدك عليَّ كطفلة صغيرة، للقضاء على نوبة الذعر والخوف التي سيطرت عليَّ، بعد أن استرجعت ذكريات 2011 وما تلاها من أحداث في مصر.

كنت أتمنى لو كنت فعلت المثل معك يا مريم خلال انفجار بيروت، هذا الانفجار الوحشي الغادر، كنت أتمنى لو كنت بجانبك، كنت أتمنى لو أستطيع احتضانك بقوة كما فعلتِ معي، وأن أخبرك أن كل شيء سيكون بخير، وأن الأمور ستعود لطبيعتها يومًا ما.

أدرك أنك “زعلى”، لبنان بالنسبة لك ليس مجرد وطن، بل هو حب كبير، عشق طاغٍ كرَّستِ له وقتك منذ زمن بعيد في تلك الأنشطة التطوعية، التي تسعين لتطويره، وكانت فرحتك الكبرى بأيام الثورة التي قامت، وعبارات البهجة والنشوة في صوتك أن “لبنان حي” وأن أبناءه لم يستسلموا، تفوق قدرتي على محاولة إفساد هذه الفرحة بأي شيء، حتى لو كانت بكلمات عن تجربة حقيقية عن الخذلان فيما يتعلق بكلمة ثورة.

ومن سيبقى للبنان

تخبريني أن الانفجار لم يطل بيتك، ولكن شعرت به، وأنك ستكونين بخير ولا داعي للقلق، أدرك تلك الهزة الصغيرة في صوتك، ذلك التردد، بأنك تخفين بداخلك الكثير، فأسارع وأطلب منك السفر إلى مصر، حتى ولو لأيام قليلة، ولكنك ببساطة ترفضين، تخبرينني أن الجميع بالفعل يترك لبنان حاليًا، إذا ما أتيح لهم ذلك، ولكن لن تكوني أنت.

أستخدم وسائل شتى لإقناعك، حبك اللا نهائي لمصر، وعن أملك أن تقيمي بها في أحد الأيام. ذكريات آخر زيارة لك في مصر، تلك “الفسحة” الصغيرة التي خرجنا بها أنا وأنت والصغير في شوارع المعز، لكن حب لبنان يتغلب على قلبك، وترفضين مرة أخرى، فـ”المصاري” ليست وحدها السبب، بل مبدأ أن الكل سيغادر فمن سيبقى للبنان.

لم أخبرك قط أنني أشعر بالامتنان لتلك الذكرى حقًا، أخبئها بين طيات ذاكرتي بحرص، فهي تجعلني أتأكد أنني لست مثل زهر الخريف، الذي قد يسقط فلا يتذكره أحد، بل أنني دومًا على بال أحدهم دومًا، الامتنان يمتد إلى شخصك يا مريم الحبيبة.

بيروت
في شارع المعز بمصر

سيعود لبنان

عزيزتي مريم.. ستجتازين الأمر، أدرك ذلك، سيتم ترميم ذلك الدمار، ليس فقط في المباني التي وصل عددها لـ5 الآف، بل في أرواحنا أيضًا، ولكنه لن يكون بفعل مواد البناء، بل سيكون بفعل الزمن وضماداته الناجعة.

مريوم.. سيعود لبنان إلى رونقه حقًا، كانت هي عادته التي لم يتخلَّ عنها منذ الحرب الأهلية، ثم الاجتياح والقصف، وغيرها من الجراح السياسية كما يروي لي أبي، فسريعًا ما يلتئم جرحه بفعل قوته، وطاقة ناسه الكبيرة على حب الحياة، والتي لا يمتلكها أحد بسهولة، بل لا يمتلكها سوى اللبنانين.

سترين، ستبتسم شوارعه من جديد، وهي تتخلص من آثار ذلك الانفجار الحزين، ليس فقط من الزجاج المهشم، أو الخشب المتناثر في الأرجاء، أو في وجهات المحال التي ستعود إلى جمالها المضيء، بل أيضًا في الحفلات الموسيقية التي تعزف أشهى الألحان للأرواح التائهة، والمطاعم التي تقدم تلك الوجبات لمن يرغب في طعام عربي مختلف، والمارة من كل الجنسيات يتجولون في الشوارع بلا خوف، كما كنا نراقبهم في شارع الحمرا.

ستعود بيروت يا مريم، كما تتمنين وأكثر، سيقوم اقتصادها من جديد رويدًا رويدًا، سيتعافى بفعل المخلصين فقط، أما هؤلاء الجرحى، والذين تخطوا الخمسة الآف، فالله وحده يدرك عمق معاناتهم العظيمة، الله وحده أيضًا هو القادر على تخفبف آلامهم، وهو رحيم فلن يتركهم، بل سيمنحهم مظلة من رحمته وحبه تقيهم موجات الإحباط والغضب، وتعينهم على مواصلة الحياة.

وحتى هذا الحين، لا أملك سوى أن أدندن تلك المقطوعة الشهيرة لجوليا بطرس أملاً في لقاء جديد لنا، وسط هذه الظروف:

على رغم الجو المشحون
بكرة بيخلص ها الكابوس
وبدل الشمس بتضوى شموس
وعلى أرض الوطن المحروس
راح نتلاقى يومًا ما

راح نتلاقى يومًا ما يا مريم.. وبدل الشمس بتضوى شموس.

صديقتك إنجي..

اقرأ أيضًا: بعد انفجار بيروت: كيف نساعد الأطفال في الأزمات الكبرى؟

المقالة السابقةتجارب أولى في المطبخ: محاولات النضج والخسارة
المقالة القادمةتحرير المحضر بحبر أحمر قاتم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا