بقلم: لبنى علي
إلى هذا الشخص المجهول.. شكرًا.
شكرًا لأنك علمتني أن الصمت من الفنون. نعم إنه فن شديد الرقي. فبالصمت يستطيع الإنسان إعادة التفكير في أموره الحياتية، ويختلي بنفسه لينجح في محاسبة الذات. صمتك عبادة، فهو فرصة للاختلاء بالنفس، لمحاسبتها وإدراك الأخطاء في حق نفسك وفي حق الآخرين، أنت تتعبد بصمتك، وما أجملها عباده!
أنا أعلم كم مررت من صعوبات في حياتك، بفقدانك الأب في سن صغيرة، أدركت وقتها عجز الكلمات عن وصف ما تشعر به، واتخذت القرار منذ ذلك اليوم بأن الكلام وسيلة للتواصل مع الآخرين في أضيق نطاق، ولن يكون أبدًا وسيلة للتعبير عن مشاعرك، أحزانًا كانت أو أفراحًا.
وكثير من الناس حاولوا بكلماتهم رثاءك، ولكن كلماتهم كانت كالخنجر المسموم الذي أصاب قلبك الصغير، فإن شفي جرح الخنجر، فما زال السم يجري بالعروق ويقتل الروح رويدًا رويدًا.
لقد لقنتك الحياة درسًا قاسيًا، أقسمت بعده أن للكلمة ألف حساب. والصمت حقًا من الذهب، وفي بعض الأحيان يكون الصمت أبلغ رد على سفهاء الناس.
ما زلت أتذكر أيامنا الأولى معًا. كنت على علم بمشاعرك تجاهي منذ البداية، فصمتك لم يمنع إخفاءها، ونظراتك دقت أبواب قلبي، نظرات حادة ثاقبة وفضولية، فبلغة عينيك أدركت اهتمامك بكل تفاصيلي. ربما لم تتحدث عن مشاعرك كثيرًا لأنك ترى أن التعبير عن الحب يكون بالفعل وليس بالكلمات. وأنت على حق، فالتعبير عن الحب بالاهتمام والأفعال أكثر صدقًا من كلمات بلا فعل يدل على مصداقيتها.
لقد مررنا أنا وأنت معًا بعدة أزمات، وكنت دائمًا أجدك بجواري، بصمتك المعتاد ونظراتك الضاحكة، وكأنك تقول لي “أنا هنا معك فلا تخافي أبدًا، ستمر هذه الأزمة وستعودين أفضل مما كنت عليه في السابق”. وبالفعل مرت الأزمات، وخرجنا منها معًا وأصبحنا أكثر قربًا، أكثر ثقة بأنفسنا وببعضنا البعض. وعندما نختلف ويشتد بيننا الخلاف، أتعمد أن أذكر نفسي بهذه المواقف الصعبة والتحديات، وكيف لم تتخلَّ عني وقتها، وكنت سندًا وداعمًا لي رغم صعوبة الأمر.
لقد اعتدت معك أن أراقب ردود أفعالك، لقد تعلمت القدرة على الاستنتاج بدون سؤالك عن أي تفاصيل. ورغم صعوبة الأمر فإن كثيرًا وأنا أفعل ذلك تظهر ابتسامة خفيفة على ملامج وجهي، لقد كبرت الآن وأصبح لك هيبة، يخشاك الجميع، فنظراتك الحادة تجعلهم يفكرون كثيرًا قبل توجيه الكلام إليك، وإن تكلموا كانت كلماتهم في لب الموضوع وشديدة الاختصار. وإن احتاج أحد إلى النصح تنصحه بكلمات قليلة، ولكن تعلق بالذاكرة وتترك أثرًا بالنفوس، ومع مرور الوقت يدرك الشخص أن نصيحتك كانت في محلها، وأنك كنت على صواب، فيعمل بالنصيحة ويتذكرك إلى الأبد.
لقد تعلمت منك فن اختيار الكلمات. فأنت تختار كلماتك بعناية. وأعتقد أن نجاحك في ذلك ناتج عن مرورك بالعديد من الأزمات، وتعاملك مع أشخاص كثيري الثرثرة لا يتمتعون بآداب الحديث، وكلماتهم الجارحة تركت في نفسك آلامًا، جعلك تتعمد تدريب نفسك على فن الحديث، وجعلك تنشر الطاقة الإيجابية لمن حولك. وتختار الكلمات المناسبة بالوقت المناسب، كلمات قليلة ولكنها مطمئنة، فلا أحد يشعر معك بالذعر أو الخوف من جرح كلمات قاسية، محبطة أو متنمرة.
ومعك تعلمت أيضًا أن لا داعي للثرثرة. ولكن بما أنني امرأة فأنا أعترف بأني شخصية تميل إلى الثرثرة وتحليل كل التفاصيل، تحليل الشخصيات، تحليل المواقف، وأيضًا تحليل الذات. ونتيجة لذلك، دائمًا في المساء بعد مروري بيوم عصيب، أراجع أحداث يومي، فتزداد انفعالاتي ولا أنعم بنوم هادئ. وفي صباح اليوم التالي أحاول مشاركة الآخرين هذه الأفكار والتفاصيل. ولا أنكر أنني اعتدت مشاركة العديد من الناس بهذه التفاصيل، ولكن قربي منك جعلني لا أرغب بمشاركة الجميع بكل هذه الأمور، خصوصًا أن البعض قد يعتبرها مجرد عبث وتفاهات.
لا داعي للثرثرة سوى مع دائرة المقربين، تلك الدائرة التي ظفرت بها بعد عناء، وبعد عدة طعنات من خيبات الأمل والخيانة. دائرة صغيرة ولكن من فيها سيبقى معي إلى الأبد. فمن يوجد بهذه الدائرة لن يوبخني على أخطائي ولن يجعلني أشعر بأن مخاوفي أو نظرتي وتحليلي للأمور مجرد تفاهات لا داعي لها.
فشكرًا لأنك علمتني فن السكوت وفن الحديث.