بقلم: نورسينا الريدي
إن الإنسان معجزة التناقضات، بجسده المحدود وروحه الحرة المنطلقة، فإنه فانٍ ويحتوي على خالد، وميت ويشتمل على حي، وعبد ويحتضن قلبًا حرًا، وزمني ويحتوي على اﻷبدية، وحبه وفنه وتفكيره وصحته ومرضه وجسده وتشريحه تدل كلها على هذا التركيب المتناقض – د. مصطفى محمود
التناقض هو حينما تشعر أنك تحيا جحيمًا بالجنة، ثمة صراع داخلى بين الشيء ونقيضه. من منا لم يشعر بتلك الأرواح بداخله تتصارع، من أجل لا شيء، من أجل الصراع فقط. جزء من شخصي يمكن أن يقتنع بمبدأ حد التعصب، ثم لم يلبث أن ينقلب عليه حد الهجوم. جزء يرى العزلة موحشة يميل للصخب وآخر يرى أن العزلة تردك إليك، إلى نفسك، وما زلت أجهل إن كنت صاحبة نفس لوامة أم أمارة بالسوء. جزء يميل للهدوء والنضوج وآخر تتلبسه روح الجنون، لا يصغى سوى للطفل الذي بداخلي، جزء مني مفوه فصيح إلى حد كبير وجزء يتلعثم بالكلمات كالحمقى. جزء يكره التقاليد والآخر يتبعها، جزء يحب المغامرة وآخر يهابها، أنا هنا أقف في المنتصف بين كل شيء ونقيضه، لا كفة تميل، فقط عالقة في المنتصف المميت.
التناقض صفة ذميمة “يقولون ما لا يفعلون”
نجد التناقض فى كل ما حولنا ابتداءً من البيت، فالأب يطلب من الأبناء التزام الصدق، وفي المقابل يطلب منهم الكذب عندما يدق جرس الباب إذا حضر من لا يرتضي لقاءه، مرورًا بالمعلم الذي يأمر الطلاب بالالتزم وتجنب الطيش والهروب، ومع أول فرصة تسنح له يهرب هو.
الورد مثال للتناقض والحب أيضًا
إن أقرب الأمثلة للتناقض الذي نعيشه، مشاعر الحب للآخرين فهي مليئة بالتناقض، فأنت تحب الشخص وتكره بعض الصفات والطباع فيه، رغمًا أن الشخص يمثل الكل والصفة أو الطبع هي الجزء، فكيف تحب الكل دون الجزء؟! أليس هذا يعد تناقضًا؟!
يقول نذار قباني:
فتقبلي عشقي على علاته، وتقبلي مللي وذبذبتي وسوء تصرفاتي، فأنا كماء البحر في مدي وجزري، وعمق تحولاتي، إن في التناقض دمي، وأنا أحب تناقضاتي.
لمَ نتناقض؟ وما الحل؟ برمجة الإنسان الفكرية
- يتكون العقل من جزئين، عقل واعٍ ولا واعي. العقل الواعي ما اعتدنا عليه من أفكار لامعة نؤمن بها وعادات. العقل اللا واعي (معتقداتنا المترسخة في العمق، مبادئنا التي نشأنا عليها، عواطفنا).
- في كل مرة تجد فعلك ناقض ما تؤمن به من فكر، فالسبب يرجع إلى عدم توافق العقل الظاهر مع الباطن، حيث تشكل قوة العقل اللا واعي 95% من قوة العقل كاملة، فالعقل الباطن بمثابة مخزن لكل البرمجيات التي تشكل شخصنا الذي نحن عليه.
- في كتاب “أنت نتاج أفكارك” يقول د. حسين الخزاعي أستاذ علم النفس “إن التناقض الذاتي ما بين القول والفعل ظاهرة تدل على غياب التناغم داخل الإنسان، وهذه ظاهرة نفسية، ولها أبعاد اجتماعية، خصوصًا أن سلوك الإنسان يعكس فكره الشخصي”.
- إن مبدا التوافق التام بين ثوابت الأشخاص وسلوكياتهم غير واقعي، فالشعور بالذنب أو الرغبة للوصول إلى الكمال لن تحقق الكمال، وكذلك لن تحقق الاطمئنان النفسي، لأن التناقض صفة ملازمة للبشر، يلزم التعايش معها وجعلها مصدر إلهام وإبداع.
يشير سعيد وهاس، اسشتاري بمعهد العلوم العصبية بمدينة الملك فهد الطبية، إلى إنه لا يوجد تعدد في الشخصية الواحدة إلا في الحالات المرضية، فالتناقض هو في الحقيقة سلوك. إن السبب في ذلك هو برمجته الفكرية لأحداث الحياة، فالتناقض ليس أمرًا عفويًا أو اعتباطيًا لا يأتي من فراغ، بل يأتي من جملة من الأهداف، وهذه الأهداف هي ما تمثل برمجة الإنسان الفكرية للأحداث التي يعيشها، فالشخصية الواحدة يلونها بعدة ألوان حسب الموقف، لا تخلو شخصية من التناقض، فالتناقض سمة من سمات البشر، ولكن الاختلاف يأتي في درجة التناقض وهو سلوك غير طبيعي ومع ذلك لا يستطيع أحد الخروج عنه والتخلص منه، فالجميع لديه قدر من التناقض، فالشخصية الأحادية غير موجودة. كما أضاف أن الشخص العقلاني هو الشخص الذي يستطيع أن يحد من عالم التناقض بداخله، فالشخص الذي يفكر بشكل عاطفي يكون في قمة التناقض في الحياة.
- إن رأيي حيال سبب التناقض بين القول والفعل، سأبنيه على افتراض هارت فيلد، جارفينكل وسيجنر، ونظرية التناقض الذاتي: الأشخاص عادة ما يقارنون الذات الفعلية (ما أنت عليه بالفعل، نسختك الأصلية التي تشمل مبادئك وعادات مترسخة بذهنك) بالذات الواجبة (الذي يشعر الشخص بأنه ينبغي أن يكون عليه، وأفكار لامعة وحضارية تشعر أنك ينبغي أن تؤمن بها).
إذًا لا بأس من تناقضات تضفي مذاقًا خاصًا لحياتنا الرتيبة، لا يهم ما دامت تحافظ على استقرار وتوازن التناقضات بداخلك، حيث لا يكثر الكره فيقتلك، ولا العاطفة أو الضعف فيهزمك. تمتع بصيفك وشتائك، فقليل من الملح يعطي الطعام مذاقًا مختلفًا.
دعنا نطرح سؤالاً: هل أنت من أنصار “فاقد الشيء لا يعطيه” أم “فاقد الشيء يمنحك ضعفه”؟