نهاية واحدة طويلة

810

بقلم: فاطمة عادل

النهاية المثالية:
أن تقودَ سيارتك لأطول وقت ممكن
والأغنية تقودك لأطول وقت ممكن
وكوب القهوة بارد
بين المقعدين، ثم تتفاجأ بأن
مكابح السيّارة لا تعمل
وبأسرابِ حمام من بعيد ستصطدم بعد قليل
بالزجاج الأمامي
ويتبعها مجموعة من الجمال، والثيران، والأحصنة، والفيلة، والبطاريق،
والزومبي، والبشر.

||

أو أن تستيقظ في الظهيرة مثلاً
فتظنّ أنك لم تغادر الغرفة، لأنك تتذكر نومك داخلها
وتفاجأ بوجودك على الكنبة في غرفة الضيوف
تمشي نحو الباب وتصرخ بأسماء العائلة واحدًا تلو الآخر
ولا ردّ. تصل إلى المطبخ
تفتح باب الثلاجة وأنت تحكّ عنقك بأظافرك
وتحدق إلى ما لا نهاية
وتنتظر فحسب، الوقت الذي ستتوقف فيه لمبة الثلاجة عن الارتعاش.

|||

أو أن تسافر إلى مدينة غريبة، وتنام من التعب على مقعد في الحديقة، فتظهر لك مارلين مونرو في الحلم، وتقول لك بأنك إذا استيقظتَ الآن فستكونُ مشهورًا لمدة دقيقتين، ثم تذهب، فتفتحُ عينيكَ ببطء شديد، وتسمع صوت الأهازيج والتصفيق والتصفير، وترى الناس متحلقينَ حولك، ويبتسمون لك، تنهضُ وأنت تزرّ معطفك وتمشي مسرعًا إلى نهاية الشارع قبل انتهاء الوقت. مندهشًا مما يمكن للضوضاء البعيدة أن تفعلهُ، لا سيما إن كانت بسببك. ومستمتعًا بصدى التصفيق، الذي شيئًا فشيئًا يصيرُ مطرًا ناعمًا على النوافذ، حيث تنظر من مكانك.

||||

أو أن تموتَ فحسب، بأقل مجهود
بعيون مفتوحة على الأبدية
أو على سقف الغرفة حيثُ تستحمّ إيستيلا وورن تحت شلّالٍ في أحد أفلامها
بأصابع لا تشير إلى مكان
بجسد يتوه في وضعيتهِ المناسبة
بدفء لا تنزعهُ الثرثراتُ العائلية
ولا الصوت الأثير حين تعثر الأمّ دومًا في النهاية على اسمك في نسيانها، وتقول إنها الطبخةُ التي تحبّها، حتى وإن كنت لا تحبّها حقًا
بجوارب ملوّنة لا تصلحُ في الأماكنِ العامة
حيث تذهب الآن.

|

أو أن تستلقي على سريرك، الشيء الوحيد الذي لا يمكنه أن يخونك
تراقب أغانيكَ التي لم يعد بإمكانها الانتقال إلا باللمس
عائلتك التي فقدتَ أعضاءها لفرطِ ما حافظَت على تكرار دهشتها الأولى حين تعيد تشغيلها
تتذكر بامتنانٍ عاداتك السيئة
وتدندن مقطعًا غنائيًا
تعرف أن أمكَ تغنّيه في مكان ما من العالم في ذاتِ اللحظة
وتنتبه وأنت تتضاءل
إلى أنك لم تمتْ مطلقًا، لا بسببِ الوحدة
ولا بأسباب أخرى مجهولة

||

أقول لنفسي
انتبه. العالم ينتهي بعد أول إطراقةِ رأس
وأحاول عندها البقاء يقظًا
حتى وأنا أعرف أن كل المشاعر في العمق تتفتّت إذا استمرّت **** في الغناء
حتى وإن كنت أعرف
أن هذا الوقت هو وقتُ الحيوات المستخدمة، حيوات قديمة نرتديها لنخفي وحشةَ اللحظة
اللحظةُ ذاتها
التي أسبقُ نفسي بها، وأهزّ رأسي لأنتبه
فقط لأني لا أحبّ النهايات
ولا أفضّل أن ينتهي العالم
والأغنية لم تنتهِ بعد

|||

بقيتُ ساكنًا في سريري
لم تصدُر عني نأمة رغبة، وما ساعدتني يدي على اكتشاف خطأ في الفتور
جسدي الذي ظلّ يتلاشى بسبب
تحديقهِ الممل، وتبريره السخيف
وأغنياته العابرة
ذكّرني كثيرًا
بأننا لا نختفي كليًّا من وقت لآخر
بل نغيّر أماكننا في الروحِ والذاكرة والغياب
حتى نصير عصيّينَ على الملاحظة
ونخدش حياتنا قليلاً
لتسيل هيَ وحدها مرة أخرى

||||

أن تتبخّر، لكن ببطء قاتل مثل ظهيرة
ذكرى حالمة وبريئة تصيرُ
وقصةً مرعبة عن الغرف العلّية
تعود أبدًا
بعد عشرات أو مئات السنين
ورغم عفونة الندم وبلاهة الأخطاء
تصرّ على الاحتفاظ باختياراتكَ السابقة
خطواتك نفسها ورغباتك ذاتها
لأنكَ مهما فعلت، تدرك أن الأمر ينتهي دائمًا بهذه الطريقة
أن تتبخّر..
ببطء قاتلٍ
مثل

|

الوقت كافٍ لكتابة أكثر من نهاية
لتخيّل العشرات، للارتطامِ بأقلّهن دهشة وإغواء
للاستعداد لقدومهنَّ الفوضويّ أو التسليم
للامتنان لتأخرهنّ أو نسيانهنّ
لتجربة إحداهنّ في الهواء الطلق
وتبنّي أخرى
لكن الروحَ كما هي مذ عرفتها تفضِّلُ
لحظة الارتماء الخالدة على سرير الضجر

||

لديَّ فكرة بدائيّة عنها
لحظةٌ أتخيّلها تكونُ قبل التلاشي برَمشة
قبل الموت بانتباهة
لحظة بطيئة أرى فيها نفسي تعيد فعل ما عوّدتها على فعلهِ طوال سنين
كأسٌ زجاجيّة إلى وسط الطاولة
رغبةٌ حادة إلى ولادتها المتعسّرة
وطفولةٌ تأخذ بيدي
وآخذ بيدها ولا نصل أي مكان

|||

متمنّيًا نهاية تليقُ بما لا يعدّها الآخرون حياة من التضحيات
انتظرتُ طويلاً حتى انتبهتُ أنها هي ذي نهاية جاءت بقدميها
بما فيها من سمر وشَجْو
أمام مرآة الصباح وتحت رحمة نوافذ الصيف المشرّعة واقفًا
بأقل مجهود في الثبات
بآخر كلمةٍ تحتفظُ فيها الشفاه
قلتُ:
أستسلم وتنهّدتُ

||||

سينتهي العالم مرّة
لأنه سيميل لتصديقِ افتراضاتي الطارئة
أمام إشارة مرور حمراء
داخل سيّارة مُصابةٍ بالخَرَف ونزلة معويّة
هناك ما يكفي من الانتظار لمراجعة كل ما في الدنيا من احتمالات
لكن النظرة السارحة باستهتار
تعي أن كل هذا سيتداعى بعد لحظات
وأني لا زلتُ كما أنا في أي لحظة قبل هذه وبعدها، جزءٌ صغير وتافه
من هذه المهزلة الكُبرى

|

لم أعد أترك الأغنياتِ في الصناديق
توقّفتُ عن كوني ساعيها الأول وابنها الشقي
يخيفني من ستكون له هِبةُ مباركة الأغنيات وتسميتها بأسماءِ أصحابها
أن يكونَ لي مصيرها المجهول
وتدفّقها الحتميّ
يُرهبني أن أنتهي كما أغنيةٍ لم تختر
ولم تشأ
أن يبعثني مرارًا دونَ وعيٍ
من ببراءةٍ يبحثُ عن خلاصه

||

من بين كل النهايات المحتملة تروقني واحدة لا أتحدّثُ عنها
نهاية تحدثُ لي باستمرار
تضطرّني للتواري خلفَ صورتي الأولى
وتحتفظ بي لأطول مدّة كأني حيلتها الأخيرة
ما زلتُ طفلاً يتمرّنُ على بكائهِ في مواقف الانتظار وفي طريق العودة إلى البيت
الصارفَ انتباهه إلى أشياء أكثر عبثًا وتوهّمات أشهى مما يجري
لكني حينَ أمشي، أضحك، أهوي، أذوب،
أحنّ، أستعرُّ رغبةً في الغياب أو الخلود
أعرف أنه يجب عليّ أن أنتظر
وأنه سيحين وقتي.. ربما

|||

لا أروي حكايتي إلا على من يعرفُ ثقةً أنني قطّعت أجزاءها وأخفيت بعض تفاصيلها ليتسنّى لي تكرارها من وقت لآخر
لا أخاف إلا من حكايا اؤتمنتُ عليها
وأظنُ أنه سيجيء وقت وتظهر
على أطرافي
بقعٌ وندوب صغيرة
ولن يعرف أحدٌ لمَ

||||

أتطلّعُ إلى نهاية دافئةٍ لا تُفسد لحظة انغماسي في الخطايا ولا تُخرجني مبكّرًا من الصورة الأولى
تستهلكني على مهلٍ كأني قدرُها وهي حِرزي
أريدُ لها أن تدوم معي
أن تأخُذني أخيرًا بصفائها التام
طفلاً مُمسكًا بيدِ أبيه في ذكرى حالمة
أو غريقًا يفتح عينيه جيدًا
تحت ماء الوَهم

|

هذه نهاية تشبه سهولة التنقّل في ظلامِ المساحات الخاصة
لها ذات تأثيرِ الإنصات إلى تهويدةٍ لا تخصّني تمامًا
ولها تأثيرُ الوقوفِ طويلاً أمام مرايا الصباح بلا أعين مغرورقة بدموعِ الندم أو الضجر
نهاية أتذرّع بها في الغياب والتباطؤ وأتدرّب على انتظارها كما رغبتُ دومًا
هي لي وأحيانًا للشخصِ الذي أكونه
بعد انتهاءِ الأغنية
أو بعد
فقدان الأمل

||

الصباحُ سيّدُ الإيقاع المجهول والاحتمالُ الأوّل لكل ما هو نهائي
حين بإمكان أغنيةٍ صَقْلي وباستطاعة قصيدةٍ نفضَ غباري
حين أسير طوعًا لرغبة الطفل وامتثالاً لصدى الكلمات
حين القليل من الوضوحِ يكفي
والقليل من ذكرى الوضوح يكفي
ويكفي أن أُسلِم روحي في صباح خامل
لأي تعبٍ طارئ
ولأي هاجسٍ يمر

|||

أنتهي إلى أحلام مُفزعةٍ أقلّ ما يقال عنها إنها اجتهادٌ شخصيّ وجحود ذاتيّ
إلى حياة كما لو في صورتها الأولى
يُمكن أن تُستعادَ -فقط- بالتخلّي عنها من وقتٍ لآخر
وإلى انطفاءَةٍ تروّضُ اللهفةَ الحمقاء
وأيّام تفيضُ عن الحاجةِ
و”أجساد
لم ننسَ أنّها ضيّقة المصائِر”*

*سرگون

||||

أمتنُّ للتعبِ إذ ينالُ حتّى الرغباتِ الملحّة في الهروب
أتوقّف وأنتظر مفاجآتِ العالم السّارة والملعونة
بما يكفي لأن ألتقي بما فاتني من الأشياء أستريحُ
وبما يكفي لأستوعبَ المصادفات الكونيّة والألمَ
والرؤى والعيون في شقوقِ جدرانِ الغرفة
أنتظرُ فحسب
فالمحطّاتُ كثيرةٌ
لكن الصوتَ البعيد
ما يزال يُطربني

اقرأ أيضًا: التغيرات المزاجية: 6 خطوات للتغلب عليها بدون دواء

المقالة السابقةالرضا بالحياة بين ما نريده وما نجبر عليه
المقالة القادمةورقة وقلم: هنا وجدت الشغف
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا