بقلم: سماح صلاح
منذ اقتنيت رواية العطر وأنا أؤجل قراءتها يومًا تلو الآخر، حين ألتقط من مكتبتي كتابًا لأشرع فيه، كنت أشعر أن هذه الرواية تنظر لي من بين إخوتها، أؤجل كتبًا بطبيعة الحال وأضع أحدها قبل الآخر في قائمة قراءاتي التالية، ولم يسبق أن نظرت لى رواية. في حقيقة الأمر كنت أخاف من مواجهة ذلك المجنون “غرينوي”.
أتوجس أحيانًا من الأعمال المترجمة، ولكن مع ترجمة “كاميران حوج” لا يمكن أن يشعر القارئ أن هذا النص كتب أصلاً بلغة غير العربية؛ جاءت الترجمة رقيقة ورائقة، لا تشوبها شائبة، نص بديع وأدب رفيع وصور أصلية كطريق يكسوه الذهب، ثم أتت عربية “كاميران حوج”، كالماء العذب سال فوق الذهب، فزاده لمعانًا وتالقًا.
“تأكد غرينوي أن لا معنى لحياته دون امتلاك الطيب، عليه أن يعرف دقائقه تفصيلاً تفصيلاً حتى أدق الفروع، فلن يكفيه مجرد تذكره مجتمعًا، أراد أن يعصر العطر الإلهي في فوضى روحه السوداء بختم مسكوك، أن يدرسه دراسة عميقة، وأن لا يفكر، لا يحيا، لا يشم إلا بناء على البنية الداخلية لهذه التعويذة السحرية”.
من اللافت للنظر أيضًا أن أحداث الرواية بالكامل تدور في فرنسا، رغم أن الكاتب ألمانيًا، ولكنه اختار مصنع الطيب الأشهر في العالم، ليكون محل الأحداث لرواية مسماه بـ”العطر”.
مسٌ من جنون
منذ شاهدت الفيلم المستوحى من هذه الرواية وأنا أرنو لاقتنائها، كنت أود أن أكتشف من خلال كلمات الكاتب أي الأفكار كانت في رأسه وهو يبتكر تلك الشخصية الشاذة، التي وصفها هو بأنها من النوابغ السفلة.
كيف نسج تلك التفاصيل الدقيقة والمخيفة في آن، هل تعتري الكاتب لحظة من جنون، لحظة من الشطط المحمود الذي يجعله يتخيل شخصيات خارقة ويجعلها حية تتحرك وتتنفس وتسعى لتحقيق أكثر الأهداف غرابة وبشاعة؟! تخيلت أنه ربما أتاه ذلك الوحي على هيئة شخص خرافي لا يتمكن أحد من رؤيته سواه، كالراهب الأسود في قصة “أنطون تشيخوف” والتي تحمل نفس الاسم، ربما لم يكن راهبًا، وإنما ملاك له جناحان عملاقان ما يزالان يرفرفان فوق رأس الكاتب منذ لحظة الإلهام الأولى، حتى يخط آخر سطر في تحفته الروائية، يحفظ عليه فكرته ويمده بخطوط درامية، ما يزال الكاتب ينهل منها حتى يروي ظمأه الدائم للحكايا، ثم ينضح على الورق بما لا يمكن لغيره من البشر تصوره حتى في أشد لحظات تألق خياله.
رسم “باتريك زوسكند“ بكلماته شخصًا ليس له من السمات الإنسانية إلا الشكل الخارجي، حتى أن هذا الشكل كان دميمًا مشوهًا بسبب الندوب التي خلفتها ظروف العيش القاسية جدًا، بل والحيوانية، على حد تعبير الكاتب، وكذلك آثار جميع الأمراض التي تركت قرحًا في جلده، والتي كانت مميتة في ذلك الزمان، ولكن “غرينوي” كان ينجو من تحت براثن الوباء مكتسبًا مناعة ضده في حالة خارقة للطبيعة.
كان “غرينوي” حاسة شم تمشي على قدمين. طغت عنده تلك الحاسة على ما عداها من الحواس، أو ربما طمستها طمسًا، يسمع ويرى ما تقتضيه الضرورة ولا يتذوق تقريبًا، وفي المقابل يشم كل شيء على الأرض أو حتى في باطنها، وراء الجدران، وداخل أعمدة الأسرَّة المجوفة، حتى في سنين طفولته المبكرة، نطق بأسماء الأشياء التي تمكن من شمها أولاً، بل التي تمكن من استيعابها بأنفه إذا جاز التعبير.
كان يحتفظ بداخله بقاموس ضخم للروائح، حتى لو لم يعرف أسماءها فإنه يعيها، يستوعبها أيما استيعاب، ويميزها من بين الآلاف من نظيراتها، طمست حاسة الشم عند “جان باتسيت غرينوي” حتى شهوة الرجل الطبيعية تجاه المرأة، لم يكن يرى وجه الفتاة ولا تفاصيل جسدها، بل رائحتها فقط، وكذلك موقعها في خطته الشيطانية، ومنذ تتبع أنفه للمرة الأولى مستدلاً على مكان ضحيته الأولى، فإنه أدرك أن هذا العطر البشري هو الأعظم على الإطلاق من بين كل الروائح التي طالها أنفه الخارق.
لعنة “غرينوي”
منذ اللحظات الأولى في حياة ذلك المخلوق وهو يشكل وبالاً، بل ولعنة، على كل من يقترب منه، حتى أن صرخته الأولى كانت سببًا في هلاك أمه، نفرت منه المرضعات تباعًا، حتى أن المرضعة الأخيرة تنصلت من رعايته مهما كان الإغراء المادي، لأنه طفل بلا رائحة، مما يعني أنه ليس إنسانًا، بل شيطان.
ثم انتقل إلى منزل “مدام غايار”، والتي قبلته عندها لأنها على استعداد أن تقبل الشيطان نفسه في مقابل المال، لا تمتلك عاطفة تجاه من ترعاهم من الأطفال، أو بالأحرى ليس لديها عاطفة على الإطلاق. يرجح الكاتب أنها فقدتها بالتزامن مع فقدانها حاسة الشم، أي أنها على الأرجح كانت مسخًا كالذي تأويه في بيتها.
ثم انتقل إلى ورشة دباغة. تركته “مدام غايار”، بعد أن أتم الثامنة، وتوقفت الكنيسة عن إرسال نفقات معيشته في بيتها، والأهم أنها شعرت بالخطر يرقد في دارها بوجود هذا الكائن. كان يعيش في ظروف قاسية جدًا في تلك الورشة، بين المواد الكيميائية الحارقة عالية الخطورة، والجلود ذات الرائحة الكريهة، وكانت اختصاصاته لا تقل قسوة، ولكن الفتى لا يشكو قط.
ترك “غرينوي” تلك الورشة بإرادته، كانت المرة الأولى في حياته التي يستخدم فيها إرادته الحرة. انتقل الى عطارة “بالديني”، المعمل الأكبر لصناعة العطور في باريس، يحوي المخزن وورشة التصنيع والمتجر. شعر حال دخوله إلى عالم العطور أن هذا هو مكانه، وما أن استدل على تركيبة العطر التي أعجزت “بالديني” ذاته، حتى وافق الأخير على أن يعمل هذا الشاب المعجزة في مصنعه. مات الدباغ في نفس اليوم غرقًا في نهر السين.
أما “بالديني” فقد هوى بيته وقد كان وزوجته بداخله، وكذلك ورشته ومصنعه وكل ما يملك، وبات كتلة ضخمة من الأنقاض بعد أن تركه “غرينوي” بساعات. هلك بعد أن أمضى سنوات في تعليم ذلك الفتى كيفية استخلاص العطور من مصادرها، كالأخشاب والزهور والنباتات العطرية، كان يهدف “بالديني” لاستعادة أمجاده والتربع على عرش العطارة في باريس، من خلال استغلال الفتى ذي الموهبة الفذة، ولكن ما لم يخطر على بال المعلّم أن تليمذه سوف يستخلص العطر من عنصر جديد كل الجدّة على هذه الصناعة بأكملها، من الجسد البشري.
شهيدٌ يُرجم من الداخل
أصابت “غرينوي”، إبان إقامته عند “بالديني”، حمّى نادرة، جعلته يفرز من جسده عبر بثوره، شيئًا أشبه بالحمم البركانية، قال الطبيب إنه يحتضر، وقال الكاتب إن “غرينوي” في تلك اللحظة كان كشهيد يُرجم من الداخل. تأملت هذه الجملة كثيرًا، فكيف يكون هذا المجرم الآثم شهيدًا؟! كيف يكون الشيطان شهيدًا؟! هل يقصد الكاتب أن جسده كان يريد أن يخلّصه من آثار كل ما عاناه من قسوة العيش؟ هل كان يقصد أنه يتطهر من عذاباته التي بدأت يوم تركته أمه تحت طاولة تنظيف السمك بين القمامة والفضلات الفاسدة، حتى يموت كمن سبقوه من إخوته مجهولي النسب؟ هل قصد الكاتب أنه يحتقر ذاته فثارت عليه، فبات يرجم نفسه من الداخل، ينفث كل الحنق على العالم عبر النوافذ التي فتحها جسده؟
كان ذلك المجنون يكره نفسه لأنه لا يستطيع شمها، كان يحتقرها لأنها عديمة الرائحة، لذا كان وجوده لا يثير في نفوس الناس أي شعور، بيد أن رؤيته كانت تصيبهم بالقرف. رغب طوال رحلته في إسباغ سمة العَظمة على ذاته الحقيرة، أعطى لنفسه الحق أن يعيث في الأرض فسادًا، يقتّل الفتيات العذراوات، ليحصل على عصارة أجسادهن، ويربط العطر الطيّار بمادة الكحول لتمنحها الثبات، ثم يقطر على جسده الدميم هذا المزيج، فيستحيل في وجدان من حوله إلى ملاك، يصعب التصديق بأنه هو من ارتكب تلك الجرائم، حتى في أشد لحظاته انتصارًا، تلك التي أفلت فيها من العقوبة. لم يكن معجبًا بذاته، كان يحسد الناس العاديين، العاديين فحسب، لأنهم يظهرون بصورتهم الأصلية ورائحتهم الآدمية في الطرقات والأسواق، في بيوتهم ومضاجعهم، في النوم والصحو، أما هو فكان نكرة، عديم الرائحة.
ساقته قدماه إلى موطن ولادته، سار بحقيقته في المدينة نهارًا فلم يلحظ أحد وجوده، وعندما حل المساء وضع على جسده بعضًا من العطر الملائكي، وفي أشد البقاع وحشية على وجه الأرض أحبه قوم للدرجة التي جعلتهم يرغبون في أن يقتربوا منه لدرجة التوحد، غير مدركين ما الذي يجذبهم له. اقتربوا منه، زحفوا جماعات، ثم استبد بهم الوَله، فالتهموه. لم يحظ “جان باتسيت غرينوي” حتى ببقعة في الأرض تضمن له بقاءً افتراضيًا، بل اختفى تمامًا، كأن لم يكن!
اقرأ أيضًا: ناقة صالحة وراوية الأفلام: حين تفوق الرواية الأدب