بقلم: مريم ياسر أبو الفتوح
هل يمكن أن تساعدنا دوائر السرد على تخطي العقبات والإحباطات التي نواجهها يوميًا في الحياة؟ هكذا تشاركنا الكاتبة في حكايات هذه التدوينة المتسلسلة.
لم تدرك تلك الفتاة التي قد أتمت ثلاثة وعشرين عامًا منذ شهور -وهي بالمناسبة كانت سنوات التخبط والضباب- أن التقدم لتلك المبادرة سيكون بمثابة تغير عدستي النظارات، لتتحول الدنيا من مجرد أفكار كأسراب حمام سريعة العودة لأبراج السراب، تتحول إلى طرقات واسعة تنتظر منها فقط الخطوة الأولى.
عالم ما بعد التخرج من الجامعة
أذكر تلك اللحظة التي قد قبلت فيها في سرد، “سرد هو مكان للتعليم الحر وإحياء العلوم الإنسانية وبرامج الأرشفة في مصر، حين قُبلت، كنت أكثر حماسًا من حماستي ذلك اليوم الذي أنهيت فيه دارسة البكالوريوس، بكالوريوس الآداب علم اجتماع شعبه أنثربولوجيا، وقد اعتادت أذناي على ذلك السؤال: تشتغلي إيه؟ أبتسم وأحاول التوضيح وبداخلي يتراكم هذا السؤال في كل مرة بعضه فوق بعض، حتى نبتت له أنياب وصار يمتص طاقتي وتفكيري، وثقتي في قدراتي، هتعملي إيه؟ هتشتغلي إيه؟
كنت على درايه -كأي شخص آخر- بصعوبة وجود عمل لغير الكليات العملية، هؤلاء الغيلان (الكليات وليس الأفراد) المسيطرون علي كل شيء منذ اعتقاد المجتمع المحيط في أن “أدبي؟ أصله ملوش في المذاكرة”، مرورًا بمفرمة التنسيقات وتهميش أغلب طلاب الكليات النظرية، ونهاية بإطفاء شعلة الحماس لدى هؤلاء المراهقين وكسر المشعل. اتجاهات لا حصر لها وكلها كلوحة على صفحات مياه، ما أن تهم بملامستها حتى تذوب بين يديك.
كانت كذلك الاتجاهات العلمية بالنسبه لي، أحب الأنثربولوجيا، وجدت فيها القرب الذي ربما لم أجده في العائلة، القرب من الناس والأفكار، القرب من الإنسانية التي قد ألهتنا العولمة عن وجودها، حتى يكاد يجزم الناس أنها اختفت. لتأتي الأنثروبولوجيا بكل سلاستها لتريك أن الإنسانية لا زالت حية، ربما مختبئة خلف كل ذلك الركام من الحداثة وتعريب قشور الغرب، لكنها هنا في مكان ما، لا زالت تسيطر ولو بشكل جانبي على الحياة.
قدمت لدراسة الماجستير وأنا لا أعلم في الحياة سوى أنني أريد أن اعرف الناس، أن أتحسس طريقي داخلهم، داخل أزقاتهم وحواريهم، الناس الحقيقيين، البعيدين (حتى لو جزئيًا) عن هبو العولمة الذي أرهق صحتي شخصيًا. ويمكنني القول في هذا الصدد إن حتى دراسة التمهيدي كانت مخيبة للآمال بشكل كبير، في وسط الكوفيد لا أهميه كبيرة للدراسة، ليس في مصر فقط، بل كل العالم كان بصدد تأجيل الدراسة أو التخلص منها مبكرًا، حتى يمكن التفرغ لمواجهة الكارثة.
اقرأ أيضًا: الأمل مش سذاجة
حكايتي مع مبادرة سرد
لا يمكنني القول إن أحلامي كانت وردية عن التمهيدي، كان بداخلي ذلك المشعل المكسور والملقى أرضًا، أقف أمامه محدقة به. لم أتعلم يومًا كيف أشعل مشعلي بنفسي، ما بالك برؤيتك لمشعلك محطمًا؟! كنت أعلم أن محاولات إشعاله ستبوء بالفشل إلى حد كبير، لكن أقنعت نفسي بأن شرف المحاولة يكفيني. حتى صادفت تلك الدعوة للتقدم لمبادرة ما تُدعى سرد، عن الحكي والناس. أظن أنني لم أفكر أكثر من عشر ثوانٍ، ربما لم يتهشم المشعل إلى هذا الحد! أخذت بضعه أيام أدعو أن أقبل في المبادرة. لأنها كانت محاولة للتشبث بأي شخص يمكن أن يساعدني، أن أصيغ تلك الحياة بشكل لا يجعلها تضيع هباء.
حتى جاء أول يوم، أول يوم في سرد، شقة بسيطة لطيفة في شارع المتنزه في شبرا، شبرا التي ما أن تخطو داخلها حتى تقع في حب بساطتها، وما أن تدخل شارع المتنزه حتى يأسرك بقدم محاله وملامح مصر التي قد حفرت على أوجه قاطنيه. لم أدرك أني هنا سأكون كل الروابط، ومن هنا ستخرج كل الآفكار، تحديدًا من تلك الشرفة، تلك الشرفة التي شهدت على تضارب الآراء وامتلأت برائحة الدخان وعلى جانبيها تقبع الثقافة والشغف ومشاعل في طور الإصلاح، وعلى جانبها الآخر تقع الحياة بكل تعقيداتها وبساطتها ومعانيها. أقف في الشرفة، في منتصف الحياة بالنسبة لي أنظر بعين على شغف ينسج خيطًا بخيط، بيد مينا ومحمد وكل الأفراد، وبعين أخرى أترقب الشارع وأنظر بما أحمل من رغبة إلى شبرا.. شبرا.. شبرا مصر.
ولذلك قصه أخرى أشارككم بها لاحقًا عن دوائر السرد وحكايتي مع شبرا.
اقرأ أيضًا: كيف أتغلب على فقدان الشغف