بقلم: سماح صلاح
لم تكن أمي يومًا امرأة عاملة، ولم تُشر يومًا أنها ترغب في ذلك، ولكنها كانت تشغل أهم وظيفة في التاريخ وأرفع منصب في العالم.. كانت أمًا. كان الجميع يخرج من البيت في صباح كل يوم وتبقى هي إما وحيدة وإما مع من لم يتأهل بعد من أبنائها للخروج إلى العالم، كنت أذهب كل يوم وفي ذهني سؤال لم أسأله لها يومًا: كيف تعيش أمي هكذا دون أن تشعر بالملل؟! ربما لم أسأل لأنني لم أكن مهتمة بالقدر الكافي أو أن عقلي الصغير كان ممتلئًا بالتساؤلات يطغى بعضها على الآخر.
حلاوة نفس أمي
لم أكن أضطر لحمل مفتاح البيت معي مثلما كانت تفعل زميلاتي اللاتي يعدن إلى منازلهن قبل عودة أمهاتهن وآبائهن، فقد كنت أعود أنا وإخوتي لنجد أمي في انتظارنا، كانت أمي موظفة بدوام كامل، أربع وعشرون ساعة.
كنا نعود لنجدها ملأت لنا البيت بالدفء وملأت المطبخ بأشهى الطعام، حيث إنها كانت ممن يشهد لهم الناس ببراعة الطهي و“حلاوة النَفَس“، سألتها ذات يوم عن معنى هذه العبارة وما علاقة الطبخ بالنفس؟
فقالت لي إنه في الزمان القديم وقبل انتشار المواقد بشكلها الحديث كانت النساء يبنين مواقدهن على شكل سياجين صغيرين متقابلين تعلوهما قطعة رقيقة من المعدن، وظيفتها هي حمل قدور الطعام، وكُن يضعن كمية لا بأس بها من الحطب بين السياجين وأسفل القِدر، ثم تشعلن النار في هذا الحطب، وهنا يأتي دور النَفَس، فما تزال الواحدة منهن تنفخ فيه حتى يشتعل بالشكل الذي يسمح له بتسوية الطعام بشكل جيد. ومن هنا ينسى كل من يأكل كل ما قامت به هذه المرأة أو تلك في عملية الطبخ، ويتذكرون فقط النفس الذي أشعل النار.
تعرفي على: استخدامات الميكرويف: 14 شيء لا توضع في الميكرويف
سر الخلطة
كان مطبخ بيتنا أكثر الغرف دفئًا، لأنه يحوي الموقد والفرن بطبيعة الحال، وكذلك لأنه يستولى على أمي لمدة لا يستهان بها في كل يوم، كنت في بعض الأحيان أختلق الحجج والمبررات وأحمل أوراقي وأقلامي وكتبي وأجلس لأستذكر دروسي إلى جانبها في المطبخ، كان كل ما تصنعه أمي لذيذًا وفريدًا في نفس الوقت، حتى وإن حملت الأطباق نفس الاسم وتشابهت فيها بعض النكهات، فإنها لم تكن لتتطابق أبدًا، حيث إن طعام الأمهات ونكهات الأمهات ومقادير الأمهات أشياءَ لا يمكن أن يصنعها غيرهن، يظل الولد يأكل من صنيع أمه حتى يشبع من الحب والدفء، ثم يتمرد ويقوده تمرده إلى المطاعم والفنادق، فيأتيه طعام منمق في أطباق مزخرفة وتقدم له ملاعق ربما صنعت من الذهب أو الفضة، ولكنه بمجرد أن يبتلع منه لقيمات حتى يتأجج في جوفه حنين لطعم ذاقه على مائدة أمه، ربما لم يكن بنفس درجة الفخامة والأناقة ولكنه كان نظيفًا حميميًا، مصنوعًا بعناية شديدة وحبٍ جم، كما يملك كل إنسان بصمة فريدة لا تكرر.
فإن لكل بيت هُوية خاصة وروح لا يمكن أن يحظى بها سواه. أتصور أن هذه الروح إنما هي من صنيع الأمهات العاملات منهن وغير العاملات، الأمهات على هذه الأرض هن من تصنعن البيوت، هن من تحفظن الأسرار، إذا لمحت إحداهن عاصفة من بعيد انحنت لها تلقائيًا حتى تمر بسلام. هن المسؤولات دومًا عن سير السفينة وإن كن لا يجلسن على مقعد الرُبان.
رائحة البيوت
كنت كلما دخلت بيتًا لأول مرة أشعر أن له رائحة مميزة، لأن فيه أنثى مميزة، أو أن فيه أمًا تشترك في كثير من صفاتها مع أمي، ربما رائحة تشبه كيك البرتقال في أمسيات تنبعث منها رائحة البرتقال مع الفانيليا في مزيج ساحر دافئ، أو ربما كانت عددًا من الفطائر الرقيقة الحانية تحتضن اللحم والجبن في ملحمة رائعة، لا يمل أحدهما الآخر ولا ينفصلان أبدًا بعد أن ذاب الجبن تمامًا، كما يذوب الجليد فوق الهضاب إذا ما ألقت عليه الشمس تحية دافئة وحملت بين يديها قوس قزح، ذاب الجبن وذاب الجليد وذابت معه كل المتاعب والأوجاع خلف باب هذا البيت، أو أنها فطيرة التفاح تلك الجميلة، تزينت وتبرجت ثم تعطرت بعدد لا يستهان به من ذرات القرفة متناهية الصغر، عظيمة الأثر، أم أنهما دجاجتان كانتا تتشاجرا في الصباح، ويحدث صياحهما جلبة ربما أيقظت الجيران، وسط تهليل بقية الدجاحات وصياح الديَكة، ثم انتهى بهما الأمر في المساء هادئتان متحابتان يحتويهما قدر واحد، مملوء بالماء المبهر، بعد أن امتلأ جوفاهما بأشهى مزيج من الأرز والتوابل التي لا يُسمح لأحد بمعرفة مكوناتها، أو هي الكنافة تتفاعل في فرن ساخن مع السمن والسكر والفستق والهيل وماء الورد، فيولد إلى العالم من رحم هذا الموقد أشهى طبق تحلية قادم من زمن شهرزاد وليالي الشرق المشبعة برائحة البخور والقرنفل وجوزة الطيب.
ربما عكفت الأم على وصفة جديدة في هذه الليلة أو تلك، راغبة بذلك في نظرة سعادة في أعين أبنائها لذا تحاول صنع تلك الكعكات التي ينبهر بها الأبناء ويثنون عليها خارج حدودها الآمنة، فتعكف على إيجاد الوصفات وتعديل المقادير وتقليد هذا الطاهي أو تلك، حتى تصل في النهاية إلى وصفتها الفريدة السرية التي إذا ما سُئلت عنها قلت بثقة “سر الخلطة“.
اقرأ أيضًا: جدتي وحكايات المطبخ