بقلم: مروة صبحي
ذهبت اليوم لحضور عرس إحدى زميلات الدراسة القدامى. فرحت لرؤية الجمع القديم من صديقات الطفولة، وكنت مستمتعة كثيرًا بالوقت، إلى أن رأيتها.. ميس سعاد مدرسة مادة الرياضيات بالصف الخامس، تعرفت عليها بسهولة، أضاف الزمن بعض التجاعيد على وجهها، إلا أنها لا زالت تمتلك تلك النظرة الحادة التي لا تخفيها نظارات كبيرة الحجم مربعة الشكل، تستند على أنف دقيقة معقوفة الشكل حتى أنها لا زالت ترتدي تلك الجيبة الكلوش قديمة الطراز.
تساءلت عن سبب قدومها، فأخبرتني إحدى الصديقات أنها لا زالت تحتفظ بصداقة قديمة مع والدة صديقتنا العروس. وجدتها تتجه نحو المنضدة التي كنا نجلس عليها. “كبرتوا وبقيتوا عرايس عقبالكم يا بنات”، تعرفت عليّ هي الأخرى بسهولة، بادرتني بابتسامة عريضة “دكتورة سارة إزيك؟ اتخصصتي ولا لسة؟”، بابتسامة مصطنعة رددت عليها: “لسة يا مس، أنا في سنة الامتياز”، ردت بفخر: “تربيتي، لولايا مكنتيش بقيتي دكتورة، فاكرة؟”. أدركتُ ما كانت تعنيه سريعًا. مس سعاد تفتخر دائمًا بكونها المعلمة المثالية ذات الأسلوب الحازم كما تدّعي.
أصبح طلابها متفوقين بفضل تعليمها الممتاز وشدتها المعهودة .ذكرتني بما لم أنسَه يومًا، أخطأت وقتها بمسألة في حل العامل المشترك الأكبر الذي لم أعرف أهميته حتى يومنا هذا. أذكر ذلك اليوم جيدًا كأنه الأمس، كنت أرتدي الزي الموحد رمادي اللون بضفيرة منسدلة وراء ظهري، قامت مس سعاد بإخراجي لأحل المسألة على سبورة الفصل، أخطأت حينها في خطوة واحدة في حل المسألة، لكن ردة فعل مس سعاد وقتها كانت لا تنسى.
قامت مس سعاد بإخراجي من الفصل وقامت بتوبيخي بأعلى صوتها، ليجتمع الطلبة من الفصول المجاورة لمشاهدة فقرة مس سعاد المعتادة التي تكررها بين الحين والآخر، لترسخ صورتها القوية وسطوتها الحازمة أمام الجميع. أذكر كلامها جيدًا “إنتي فاشلة ومش هتنفعي في حاجة حتة مسألة مش عارفة تحليها”. حتى ضفيرتي لم تسلم من لسانها، فقد اتهمتني أنه ليس لي همًا إلا تضفير شعري “وسبسبته” على حد قولها.
يومها ولأيامٍ متتالية عديدة، حاولت تجنب أن تقع عيني بعين أي أحد ممن حضر تلك الواقعة. في الحقيقة ميس سعاد كانت محقة في كونها سببًا في تفوقي، فمنذ ذلك الحين فقد عاهدت نفسي أن لا أخطئ أبدًا حتى لا أتعرض للإذلال مرة أخرى. لم تعلم أني الآن وبكامل قواي العقلية أريد التنازل لها عن كل تفوق حققتُه بسببها، مقابل أن تُمحي تلك الواقعة من ذاكرتي.
لم تعلم مس سعاد أنها لم تغادرني منذ ذلك الوقت. كانت موجودة بداخلي دائمًا. أذكر حين وبختني عندما لم أحصل على تقدير امتياز بدل من جيد جدًا الذي حققته. عانيت أيامًا بسبب ملامحها الحادة التي لم تتركني لحالي حين تعثرت أمام زملائي وأثار ذلك ضحك الجميع، فقد أقنعتني أن عدم تركيزي بالمشي هو الذي جعلني أضحوكة للجميع. أحسست بالذنب كثيرًا بسبب تأنيبها لي حين تركني “أحمد” حبي الأول بالجامعة، فلم أستطع أن أصبح حبيبته المثالية التي يتمناها ولا يستطيع الابتعاد عنها، ولا زلت أعتقد أني غير صالحة للارتباط به أو بغيره. كانت معي الشهر الفائت حين حاولت تعلم البيانو، فظهرت لي لتخبرني أنه لا أهمية حقيقية لما أفعل، وسوف يسخر الناس مما أفعل، وقطعًا لن أصبح يومًا عمر خيرت.
دار كل ذلك في ذهني وأنا أتأمل ابتسامتها المتفاخرة بتربية جيل كامل من المتفوقين. لم تعلم حقًا أنها ربت جيلاً كاملاً من المتخفين وراء شبح خوفهم في ثوب من المثالية الزائفة، لا يعرفون معنى أن يكونوا حقيقيين دون خوفهم من انتقاد من حولهم لما يفعلونه، أدمنوا إنجاز كل شيء على أكمل وجه. يوبخون أنفسهم لأقل تقصير. تسكن مس سعاد داخلهم جميعًا قسرًا.
باركت للعروس وغادرت العرس، مودعة مس سعاد للأبد وبلا رجعة.
اقرأ أيضًا: التنمر وأبلة فاطمة