سوف تلهو بنا الحياة وتسخر

1818

بقلم/ آية إبراهيم

كل شيء قادم من هناك قادر على إسعادي، إلهامي وأخذي إلى براح كنت أعرفه جيدًا، هناك على بُعد اثني عشر عامًا، حيث طفلة مدللة لأنها أصغر أفراد العائلة، يضج البيت بالحيوية والنشاط طوال ساعات اليوم. موعد وجبة الغذاء ثابت في الرابعة عصرًا، يتبعه أكواب الشاي المعهودة والحديث في اللا شيء.

واجب المدرسة الذي كان أثقل همومي وقتها، حديثي وغنائي مع إخوتي قبل النوم، تجمع العائلة يوم الخميس من كل أسبوع، حيث تتعالى ضحكات الكبار في المساء، بينما الصغار منشغلون بألعابالكوتشينة وبنك الحظ وغيرها. عدد قليل من الأصدقاء في المدرسة، التفوق وقتها كان سهلاً، يكفي أن تتبع تعليمات المعلمين، هناك حيث كانت الحياة صغيرة ومحدودة لكنها تسعنا بشيء من الدفء. دائمة الحنين أنا، ويزداد حنيني كلما بعدت المسافات، أقصد السنوات، تذهب بي ذاكرتي إلى تفاصيل كانت تسعدني، تذهب عندما تضيق بي الحال هنا، على أمل أن أعود بابتسامة ونفس عميق، يتبدل معه حنيني اليائس بشيء من الأمل.

في ليلة عادية تقترب من الملل، مصادفة وجدت حقيبة قديمة تمتلئ بكراكيب لم يعد لها أهمية، حتى أنها لم تُفتح منذ انتقالنا إلى بيتنا الجديد، ولأني مغرمة بالتفتيش في الكراكيب فكانت سهرتي تحددت، سأقضي الليلة أفتش فيها، ربما أجد شيئًا يهمني، وأحظى باقتنائه في صندوقي الخاص، وقد كان.

جواب قديم

أظرف جوابات وشرائط كاسيت قديمة، كان بينها جواب قديم أنا التي أرسلته، ولم يكن عمري قد تخطى ثماني سنوات، كنت قد أرسلته إلى أخي المغترب في المدينة الجامعية، في إحدى المحافظات البعيدة، كلام ساذج كتبته ألقي به التحية عليه، كلام يشير إلى أنني اشتقت إليه، وفي انتظار عودته، وإمضاء بخط سيئ للغاية، يحمل اسمي، وقبله لقب الدكتورة، يبدو أنه كان حلمي وقتها. قرأته بشيء من الامتنان، والسخرية من كلامي، في آن واحد. لقد عاد أخي إلينا ومعه كل أشيائه، عاد ومعه كل الجوابات التي كنا نرسلها إليه، وجرت الحياة مجراها، أكبر أبنائه الآن في نفس عمري، حين كتبت ذلك الجواب. متى وكيف مرت كل تلك السنوات؟!

أدب الرسائل

أتعجب، كيف كان تقديري لكتابة جواب وأنا في سن صغيرة هكذا؟! ربما لأنها كانت الوسيلة التي نتواصل بها معه حينها، الآن عرفت لماذا أنا أسيرة أدب الرسائل، الأمر من قديم إذًا. الغياب والانتظار، الشوق واللهفة كانا جزءًا من حياتي الصغيرة، مواعيد وصول القطارات ووجوه المنتظرين في المحطة، بينهم أنا وأبي، كل هذا الذي بات محفورًا في ذاكرتي، أعرفه وأقدره جيدًا، حتى أنني أصفه وأكتبه.

شرائط الكاسيت

كانت شرائط الكاسيت لها دور لا يقل أهمية عن جوابي المذكورأعلاه حتى أنني بالكاد سمعت صوت الكاسيت يضج بأغاني التسعينات، التي تذهب ذكرياتها لأشقائي، ومن ثم لي، لأنني كنت أجلس بجوارهم دائمًا. بعض الشرائط تذهب لأبي، حفلات نادرة مسجلة لأم كلثوم وعبد الوهاب، خُطَّ عليها اسمه واسم الأغنية. تلك مفضلات أبي، التي يعتز بها، ولا يفرط فيها أبدًا. التقطت صورًا لها، بلغة عصرنا هذا فالشيء الذي يبهرنا نلتقطله صورًا تنقل جماله.

ذكريات الأجيال

ثم عدت إلى هنا مرة أخرى.. للحياة السريعة والسنوات الحاضرة، وبوادر نضجي ورسائلي التي باتت أعمق. إلى كتبي التي دائمًا ما أجد فيها ضالتي، وأغانٍ حديثة تتوج أيامًا ستصبح ذكرى في وقت قريب، إلى أشياء كثيرة ربما لن أدرك حلو مذاقها إلا بعد سنوات. أصوات الأشقياء الصغار أولاد إخوتي، تملأ البيت بهجة وحيوية من جديد. ستكون تلك ذكرياتهم، تمامًا كذكريات بيت جدتي، التي لا تنتهي أبدًا. أحتفظ برسوماتهم ذات الألوان العشوائية وأوراق تجاربهم على الكتابة، سيكون شيئًا ثمينًا وغاليًا وذكرى أحب أن أهديها إليهم يومًا.

أجلس مع أمي، تحكي لي ذكريات طفولتها في بيت والديها، رحمهما الله، تحكي عن آمان كانت تشعر به، وعن أشياء بسيطة كانت تسعدها، بينما أحن أنا إلى ما قبل عشر سنوات، وهناك جيل جديد حولنا تنتظره الحياة.. هناك ذكريات جديدة تنتظر أن يصنعوها، فكل لحظة تمر تصبح ذكرى، والذكريات بدورها تلطف ثقل الأيام. يمكنك صنع ذكريات جديدة حتى آخر لحظة في الحياة. لكن لسبب ما لا نفهمه سيكون الحنين دائمًا للذكرى الأقدم.

كعادتها أم كلثوم تشاركني تفاصيلي وتردد في الخلفيةسوف تلهو بنا الحياةُ وتسخر”.

المقالة السابقةما يفوق الوصف والاحتمال
المقالة القادمةكن أفضل نسخة من نفسك تعرف على الطريق
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا