ما يفوق الوصف والاحتمال

1354

كأنني آخر يراني ويروي، خيال أو نافذة أو شاهد قبر

ترددت طويلاً قبل الاستقرار على عدم كتابة اسمي، ومع أنني لا أستسيغ التخفّي وتزعجني عدم القدرة على البوح دون قيود، والصراخ هذا أنا، وهذه كلماتي، ولتفعلوا ما تشاؤون، ربما لأنني تُثيرني التحدِّيات، حتى ولو نتيجتها الخسارة، عن جسارة أو تهور، والأرجح عن جنون، إلا أنني فضَّلت حجب اسمي اليوم، احترامًا لشركائي بتلك الأيام العصيبة.

أعبر الخريف والخوف بمعطفي أحتمي كالأطفال بأجنحة لا تطير

أنا أشعر بالحزن

أشعر بالحزن والفقد

أشعر بالحزن والفقد والغصَّة

أشعر بالحزن والفقد والغصِّة والوحدة

أشعر بالحزن والفقد والغصَّة والوحدة واليتم

كل هذه الحقائب والرحلة بالكاد تتسع لراكب

خلال العقد الأخير من حياتي، يتربَّع 2019 على عرش العام الأسوأ، على الإطلاق. ففيه اختبرت كل مشاعري البائسة، حد التطرف والفزع والانهيار، وصلت الحافة مرارًا، مُنِّيت بالهزيمة النكراء على أكثر من مستوى، أوشكت على الانتهاء من مخزوني من البكاء، فكَّرت لأول مرة، كيف يمكن للانتحار أن يكون مغريًا وجميلاً.

خضعت لأنواع مختلفة من العلاج النفسي، حاولت إنقاذ زواجي من أن يجرفه التيار بعيدًا، وقفت بوجه الوحش الكاسر الذي داهمني ووضعني وجهًا لوجه أمام تحديات مختلفة، هددت علاقتي بالرجل الذي أحبه، وبقدر ما حاولت التصدي له مرات، استسلمت له مرات أخرى عن وَهن، أو للانتهاء من الأمر وكفى استنزافًا.

أجلس الآن على حافة كأرجوحة، أدلِّي ساقيَّ، أُغمض، ولا ألوِّح لأحد

تبدَّل ترتيبي لأصدقائي المقرَّبين. خسرت بعضهم، وسكن الفتور قلبي تجاه آخرين. فيما أصبحت حياتي مشاعًا للغرباء. تمرَّدت كما لم أفعل من قبل، فزت بجولات لم أكن أعلم أنني قد أنتصر بها، وانهزمت بأخرى ظننتني آلفها وأنها مساحتي الآمنة. في ٢٠١٩ فعلت كل شيء، حتى أنني اختبرت الفقد بالموت، الذي نجح أخيرًا بالولوج إلى دائرتي القريبة.

رغم كل ذلك ظل الشعور باليُتم هو الأصعب، وبقدر ما حاولت الهروب منه، ها هو قد أصبح حقيقة، عليّ الاعتراف بها، وإلا ابتلعني. بالطبع لست واثقة أن ما أختبره هو الشعور الحقيقي باليتم، باعتباري لم أفقد والديَّ، لكن تلك هي ترجمة روحي للإحساس الذي اجتاحني، وتصاعدت حدته طوال الشهور الماضية.


في البدء انهار العالم الذي أعرفه

أتذكر كيف كان العالم قبل أن يصطدم كطائر بزجاج

اعتدنا بالصغر النظر لوالدينا، باعتبارهما قادرين على حَلّ الألغاز، وفَكّ الخيوط المتشابكة، أو تنبيهنا للألغام من حولنا، لذا كم يصعب رؤيتهما وقد استبدلا ثوب البطل الخارق بآخر، تملَّكت منه الثقوب، فيما يطالبانك أنت (الصغير) بتصليح ما عجزا عن فعله. الأمر مؤلم.. مؤلم كثيرًا، سواء لأنك تراهما بكل لحظة يتداعيان أمامك ويزدادان سقوطًا، أو لاعتقادهما أنك صرت كبيرًا بما يكفي، لإخبارك تفاصيل تُهشِّم ما تبقى، لصورتهما العملاقة داخلك، وتُشعرك بالعجْز وانقصام الظهر، حين تفاجأ بحجمهما الطبيعي الذي هو أصغر بكثير مما كنت تتصوَّر، لا لشيء سوى أننا جميعًا من داخلنا، ما زلنا صغارًا، تتقاذفنا الرياح، وبحاجة ماسة، بل ومستمرة، تارةً للإنقاذ وأخرى للطبطبة.

الجرح العميق كوجود

يزداد الأمر سوءًا حين تُسقِط المشكلات، ولو دون وعي على علاقاتك، فتبدأ بالتصوُّر بأن كل الرجال قد يفعلون ذلك، أو كل النساء قد ينكسرن بكل هذا القدر، وأن طول السنين والعشرة ليس ضمانًا لأي شيء. أما الأكثر تعقيدًا، فهو عجزك عن مشاركة ما تمر به مع أحد، فكيف لك الحكي عن خيبة أملك بالكبار، ولو لأقرب الناس إليك! خصوصًا أن معرفة الآخرين تعني إقرارك بالمشكلة، وهو بالضبط ما تحاول الهروب منه، حتى الحكي للطبيب النفسي، مؤلم وشاق، ويتطلَّب الدخول لأعماق موحلة، لست على استعداد للغوص فيها.


بعدها وصلت إلى مفترق طرق

العلاقات التي كعلامات تعجب، العلاقات التي كعلامات استفهام

زوجي هو الرجل الوحيد، الذي رآني بكل حالاتي، وتقلُّباتي المزاجية الكثيرة، وعلى ذلك أخاله ظلّ يحبني القدر نفسه. أعترف أنني داخل بيتي امرأة أخرى، غير تلك خفيفة الظل على السوشيال ميديا، أو لطيفة المعشر مع الصديقات المقربات، (إن كنت كذلك). في منزلي أنا أسوأ نسخة مني، رغم محاولاتي المستميتة، كي لا أترك نفسي على سجيّتي بالكامل، ربما كان ذلك نفسه أحد الأشياء، التي تجعلني أستشيط غضبًا، كوني غير قادرة على إظهار عيوبي ببيتي، فلا ألبث أن أصبح أسوأ!

كأننا أتينا بعدنا

بعد سنوات طويلة من الزواج والأمومة، وكل تلك المسؤوليات الثقيلة واللا نهائية، وبحال كانت الزوجة امرأة عاملةً، يصبح الحب على هيئته الأولى رفاهية، والانسجام طويل المدى حلم، وراحة البال هلاوس، أما وقت الفراغ فعبث. فمع الوقت ودون أن نشعر أو نقرر تتبدّل نظرتنا للأمور، ترتيبنا للأولويات، تتغيّر الأشياء التي تجعلنا سعداء، وحتى الطُرُق، التي صرنا نُريد أن نقضي بها ما تبقى من حياتنا، ولو مع شريك الحياة نفسه.

مثلك تربكني صيغة الماضي، أنا أيضًا تؤلمني كلماتي

يزداد الأمر سوءًا حين يطال التغيير طرفًا واحدًا بالعلاقة، آو يتغيّر كلا الطرفين باتجاه مضاد، وبينما يريد أحدهما للحياة أن تكون أكثر عاطفيةً وارتباطًا، يحاول الآخر التعامل مع الحياة، بشكل أكثر خفّة، وبأقل قدر من التوقعات، تسهيلاً لمُضي الرحلة للأمام. أما الأكثر تعقيدًا، أن يكون الحب بين الطرفين ما زال حاضرًا وبقوة. هنا يصبح الصراع مُحتدمًا، والخذلان عرضًا مُستمرًا، واللغة التي يتحدّثها الاثنان، لا يوجد فيها شيء مشترك، سوى كلمة “أحبك”. وهو ما يترتّب عليه استحالة النتائج الفورية، فيما يُزيد تأخر تحسُّن الوضع المسافات بين الطرفين، وترى يومًا بعد آخر كل ما حلمت به وشيّدته ينهار، أو بالكاد يظل صامدًا.


وأخيرًا صرت وحدي في مواجهة الطوفان

أيها الوحيد كشجرة، الكثير مثل إله

قبل خمس سنوات هاجر أخي الأكبر، لمدينة بعيدة جدًا، وها هو الصغير، اتّخذ قرارًا -على وشك التنفيذ- بالهجرة، لبلدة بعيدة أخرى، ولأسباب لا مجال لذكرها، لن يمكنني التقاء كليهما قبل سنوات، ليست بالقليلة. لأبقى هنا كما يليق بشجرة، تكالبت الدنيا لقطع جذورها حتى ذبلت، وشاخت في بقعة من الأرض، تحترف قتل الأشياء الحلوة داخلها.

أكثر من حياة وأقل من حياة دائمًا

لن أزعم أن علاقتي بإخوتي مميزة، فنحن لم نعتد الحكي معًا، أو السؤال عن بعضنا بعض، ولا حتى الالتقاء بصفة دورية، فما الذي يجعل الأمر دراميًا كل هذا القدر؟ هل هو تزامنه مع المجريات الأخرى بحياتي، وشعوري بكونهم يتركونني الآن، بعد أن صرت كريشة بمهب الريح، فيما كل شيء من حولي يدعوني للضياع والاستسلام؟ بالطبع هذا جزء من كل لكنه -باعتقادي- ليس كل الحقيقة، وإن كنت ما زلت أجهل المتبقِّي من الإجابة. والأغرب أنني -رغم ما يسكن أعماقي- لم أتشارك تلك المشاعر مع أحد، ولا حتى إخوتي أنفسهم، بل ولم أحاول الشبع من أخي قبل سفره.

شيء في روحي كهاوية نهاني عن المفارق

أتعامل مع الأمر ببساطة، كما لو أنه لن يذهب إلى آخر العالم، أحادثه لترتيب موعد لوداعه، كما لو كانت مقابلة عادية، عليها ألا تتعارض مع متطلبات وظيفتي، أو مواعيد تمارين الأبناء. أنا أكره الوداع، وبقدر ما فرضه عليَّ نمط حياتي، صرت محترفة للإفلات منه، حتى ولو كنت المَعنية بالتوديع، أُفَضِّل أن يتَّهمني الآخرون بتحجُّر القلب، عن استشعار الهزيمة أمام دورة الحياة. بواقع الأمر، جرَّبت الوداع مرة واحدة قبل عشرين عامًا، أقسمت بعدها ألا أختبره مُجددًا أبدًا، ما زلت أتذكر المشهد بتفاصيله.. الظلام الدامس، الوحدة، قلة الحيلة، الألم الذي اعتصر قلبي، ثم بكائي بكل ركن، تاركةً جزء من روحي هناك للأبد.

القُرب أيضًا جارح

منذ أن حدثني أخي قبل عام عن نيته للهجرة، وتوقيت السفر، وأنا أتجاهل الأمر، أُخبرني أنه لا داعٍ لاستعجال الوجع قبل أوانه، وإذا كان لا بد أن أنهار، سأفعل ذلك بعد سفره. وها أنا على بُعد ساعات من وداعه، أحاول التظاهر بالصمود والقوة. لكنني بداخلي أنزف وجعًا وحسرةً ودمًا، أنزف لكل الأسباب التي ذكرتها، والأخرى التي لم أجرؤ على الخوض فيها.

المشاعر جميعها تتصارع، على مرأى ومسمع من روحي، فإذا بها تفوق الوصف والاحتمال، أما أنا فأراني وقد عدت الفتاة نفسها، ذات العاشرة، التي أجبرتها الحياة فجأة، على الانتقال إلى واقع جديد تمامًا، وغير مألوف، تقف بمواجهته، فيما تشعر بالحزن والفقد والغُصّة والوحدة.. واليُتم، دون أن تُخبر أحدًا.

ألم يكن كافيًا أن أكشف كل أوراقي؟

ها وقد حدث الوداع.. التقيت أخي قبل ساعات، قضيت اليوم بصحبته، وعلى ذلك كنت شديدة الحرص أن أتحاشاه، اقترب مني بالثُلث الأول من اليوم، وسألني: هل تصدّقين أن تلك ربما تكون المرة الأخيرة التي نلتقي بها؟ أجبته بلا مُستهزأة، ثم تركت الغرفة مُتظاهرةً بالانشغال.

بالثُلث الثاني طلب مني التقاط صورة تذكارية معًا، اقتربت منه وابتسمت، ابتسامة صناعية تمامًا، لكن، فور التقاط الصورة، طلبت منه التقاط أخرى، لففت يدي حول عنقه، وبدلاً من أن ابتسم ترغرغت عيناي بالدموع، وأخاله فعل المثل، تُرى هل سجَّلت الكاميرا تلك اللقطة، كما استشعرتها داخلي، أم جمَّلتها؟

بالثُلث الأخير، ناداني، جهَّز كاميرته على وضع الفيديو، ثم أخبرني أنه يرغب بتسجيل الحضن الأخير بيننا، ضحكت مرتعبةَ، وأجبته أنني لا أُريد المرور بتلك اللحظة. فجذبني إلى صدره، احتضنني بقوة، داخل جسده الضخم، كما لو كنت طفلته، رغم سنوات العمر العديدة التي أكبرها عنه.

همس بأذني أنه يُحبني، وأن عليّ معرفة كم سيفتقدني، وأنه لا يعرف حقًا إذا ما كنا سنلتقي مرة أخرى أم لا، وهنا أم في مكان بعيد جديد. لم أُجبه شيئًا، سوى نحيب مكتوم، حتى كادت أنفاسي تنقطع، وما أن أفلتني حتى استدرت، دون أن أنبس بكلمة، وذهبت لأبعد نقطة عن مرأى الجميع لأبكي، لم أكن أبكي رحيله فقط، لكنني كذلك كنت أبكي نفسي، التي حتى بأحلك لحظات انهيارها لم تقو على الانكسار.

مصدرديوان "ما يفوق الوصف"
المقالة السابقةسينما صيفي
المقالة القادمةسوف تلهو بنا الحياة وتسخر
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا