بقلم: نادية جمال
لفترة طويلة، كنت ألوم نفسي كلما أجلت مشاهدة فيلم أرغب في مشاهدته، وأتهمها بالكسل حتى عمّا تحب، إلى أن جاء وقت أدركت فيه أن هذا مجرد “ميكانيزم” ألجأ إليه عندما أشعر بأن هذا الفيلم لحظته معي لم تأتِ بعد. تعرف نفسي أن لا شيء قادر على التخفيف عنها مثل السينما، فتحفظ الأفلام في مكانٍ آمن في عقلي، تظل في ذهني، لا أنساها، ولا أشاهدها، إلى أن تأتي لحظة ما أعي عندها أنني بحاجة إلى فيلم من هذه القائمة المؤجلة لأنغمس فيه، فيكون هذا الفيلم -بلا مبالغة- بمثابة اليد التي تمتد لتربت على كتفي.
كانت ذروة هذا الإدراك مع فيلم La La Land الذي أجلت مشاهدته لثلاث سنوات، رغم كل الضجة المستحقة تمامًا التي أثارها عام صدوره. بعد مشاهدة لا لا لاند توقفت عن لوم نفسي على تأجيلها للأفلام، مؤمنة بأن وقتها معي حتمًا سيجيء، إلا أن في نفس الوقت، خلق بداخلي هاجسًا مرعبًا، يتعلق بـ: ماذا لو انقضى عمري فجأة دون مشاهدة كل هذه الأفلام، الجيد منها والسيئ؟ أوقعني لا لا لاند مجددًا في حب السينما، بكل ما فيها، لم يعرفني من جديد على السينما كمصطلح معروف، حيث الخيال والأحلام والواقع والمخاوف والهواجس، وكل شيء محسوس أو غير محسوس يتجسد أمامي على الشاشة، بل أعاد تعريفي، من جديد، على السينما كمعنى في قلبي، ما تقدمه لي وما تفعله بي.
لم تكن بدايتي مع “لا لا لاند” عام 2020، فتحته مرة عام 2017 بعد ترشحه لعدد ضخم من جوائز الأوسكار، ولسببٍ ما أغلقته سريعًا، بالتحديد بعد أغنية “Someone in the crowd” لإيما ستون، رغم حبي لثنائيتها هي و”رايان جوسلينج”، وعدت نفسي بالرجوع إليه عندما يسمح مزاجي، فلم يسمح إلا بمنتصف عام 2020، مع أجواء الكورونا والمرض والعزل، الممزوجة بأجواء التخرج وخطة البحث عن عمل في سوق ما بعد الوباء والخوف من الضياع، كان الفيلم بدرجاته الزرقاء الحالمة وموسيقى “جاستن هورويتز” الجارحة بلطف هما ملجئي في ليلة صيفية حارة، هادئة بفعل حظر التجول.
نخب الأمل واليأس، الخيال والواقع، التحليق بالسماء والارتطام بالأرض، وجود الحب صريح بحياتك معلنًا عن نفسه وشبحه، الونس والوحدة، التحقق والفشل، الأحلام ولو جرحت أصحابها، ونخب الفن. هكذا جاء لا لا لاند ليحتفي بكل هذه الأشياء، التي تُشكل في مجموعها الحياة بكل ما تحويه من الشيء وعكسه.
يدور الفيلم عن “ميا” العاملة بأحد كافيهات استديوهات “وارنر بروس”، حيث تقضي وقتها بينه وبين تجارب الأداء لتحقق حلمها في التمثيل، و”سباستيان” عازف البيانو المخلص لموسيقى الجاز، ويسعى لامتلاك الملهى الخاص به، ليقدم فيه موسيقى الجاز التقليدية كما يحب، دون وصاية من أحد. يتشابه بطلا الفيلم هنا بـ”أندرو نيمان”، بطل فيلم “Whiplash” لنفس الكاتب والمخرج “دايمان شازيل”، “نيمان” كانت عقبته الأساسية في الخروج عن الإيقاع، “ميا” و”سباستيان” أيضًا خارجان عن الإيقاع.
ميا” لديها حلم، تأخذه بجدية، تتنقل بين تجارب الأداء وسط مُحكّمين لا يأبهون بها، منهم من يهتم بتناول وجبته أكثر، ومنهم من لم يرفع عينه من شاشة هاتفه ليشاهدها، وجميعهم يفضلون عليها من هن أكثر جمالًا. أما “سباستيان” فلديه تصور تقليدي عن مزيكته المحببة، يزداد اندثارًا بمرور الزمن، لم يتفق معه فيه حتى أصدقائه من مقدمي نفس اللون الموسيقي. بطريقة ما تدركها من خلال الأحداث يتقابل “ميا” و”سباستيان”، تنشأ بينهما قصة حب تعلن عن نفسها بين شوارع لوس أنجلوس، يتخذ كل منهما من الآخر شريكًا وجمهورًا، يسير بجانبه، يحكي معه عمّا يحبه وما يريد أن تكون عليه حياته، وتحكي معهما الأغاني، فالأغاني في “لا لا لاند” امتدادًا لحوار الأبطال وصوت لمونولوجهم الداخلي وحالتهم الذهنية.
لا يستمر الرقص بين النجوم كثيرًا، يجد الواقع طريقه للحالة العامة للنصف الأول من الفيلم، وتبدأ العلاقة بين الثنائي الحالم في الخفوت شيئًا فشيئًا، خصوصًا بعد انضمام “سباستيان” لفرقة “كيث”، ويأتي مشهد الحفلة ليكون تعبيرًا مختصرًا عن هذه العلاقة. ينفصل “ميا” و”سباستيان” بعد فشل العرض المسرحي الأول لها، وغياب “سيب” عنه وانشغاله بجلسة التصوير، يعود شبح العلاقة مرة أخرى بعد توجه “سباستيان” لها أسفل منزل والديها ليخبرها بموعد تجربة أداء جديدة، ترفض “ميا” وتخاف أن تسبب لنفسها الحرج ويتحطم قلبها مرة أخرى، يدفعها “سباستيان” للذهاب ويذهب معها، مثلما دفعته هي سابقًا لترك الفرقة، والتمسك بحلمه في ملهاه الخاص، وفي أن يفعل ما يحب.
الحزن السعيد
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أطلقت “فيروز” أغنيتها “الله معك يا هوانا” من كلمات وألحان “الأخوين رحباني”، لنسمع للمرة الأولى “يا حزني السعيد انتهينا واتودعنا”، في كل مرة أسمع بها الأغنية يأخذني جمال التعبير. الحياة وأحداثها، لا سيما قصص الحب يقع الكثير منها في إطار الحزن السعيد، القصص المؤلمة التي لم تكتمل كما خططت لها، تجرحك عندما تتذكرها، لكن جرحها مختلف، جميل بقدر ما يُؤلم، يذكرك بأنك حظيت بلحظة كدت تطير فيها من فرط السعادة، حتى ولو فرضت الحياة بعد ذلك سطوتها. يذكرك بأنك اختبرت الحب، والانغماس حتى الثمالة، والتحليق، وفي يومٍ شعرت بمعنى أن يكون لك شخصًا في الحياة، ثم رضيت بالفراق والألم كجزء من النضج في تقبل معادلة الحياة، التي قلما تمنح كل شيء في نفس الوقت.
في La la land ما زال الماضي محفوظًا كذكرى غالية في قلب “ميا” و”سباستيان”، تصبح هي النجمة الهوليودية “ميا دولان”، ويفتتح هو ملهى الجاز الخاص به، وبصدفة عابرة يتقابلان من جديد بعد خمس سنوات، عندما تدخل الملهى بصحبة زوجها لتتفاجأ بالاسم “Seb’s”، مكتوبة بنفس الشعار الذي أهدته له سابقًا، رغم اعتراضه على الاسم آنذاك، مفضلًا تسميته بـ”دجاج على السيخ” الأكلة المفضلة لـ”تشارلي باركر”.
تدخل “ميا” المكان، ترى كرسي “هوجي كارمايكل”، تستمر في التقدم رغم كل الشواهد التي تدل على انتماء هذا المكان لـ”سباستيان”، يصعد للمسرح ليقدم فقرته ويراها، يحييها بعزف مقطوعتهما الخاصة فيما تشرد هي بخيالها، وتنسج قصة موازية لهما معًا، يعيدها انتهاء عزفه إلى الواقع، تخرج مع زوجها، ثم تلتفت له ويودعان بعضهما البعض ببسمة وإماءة رأس، ينضج البطلان وننضج نحن معهما، ونرى كيفية حضور الماضي على هامش الحاضر، لا أكثر.
لا لا لاند فيلم عن كل الأشياء التي صرنا نخجل من الحديث عنها إلا في إطار السخرية، عن الحب والشراكة والمؤازرة والأحلام والشغف، عن كل شيء فقد معناه في قلوبنا بفعل الواقع والعملية. يأتي لا لا لاند ليطمئننا بإن الحياة لم تنل منّا كما نعتقد، ما زالت لدينا قطعة متمردة في القلب، تريد أن تغني وتحب وتحلم وترقص بين النجوم، وما زالت مقاعدنا محفوظة بين أوساط الحمقى الحالمين.