هاربة من الأنوثة

1437

لو أن تلك المُراهِقة التي رافقتني خلال الشق الثاني من طفولتي كانت تعلم، أنني سأتحدث يوما عنها تحت عنوان الأنوثة، ربما كانت لتُحسن التصرف أكثر، ربما كانت لتؤثِر المواجهة على الهروب، فتعانق مخاوفها من ذلك الغول المفترس، الذي لمحت خياله -حينها- يتربص بها، خيال الأنوثة، الذي ما أن تلمحه إحداهن حتى ترتعد أوصالها، وكأنها بصدد حرب لا مجرد تطور طبيعي، حدث ويحدث وسيظل يحدث إلى الأبد.

إشارات الأنوثة الأولى

حينما زارتني أولى علامات البلوغ ظننت أن للأمر علاقة بلعنة ما أُصبت بها، حملت نفسي الغريبة عني، وصعدت لغرفة تتوسط سطوح منزلنا القديم، الذي حملني بين جدرانه طفلة رضيعة، بينما يُبعثر سكينتي شعور يُشبه شعور المتحولين، هؤلاء ممن تُصورهم الأفلام الأجنبية يرتعدون ويطالعون أنفسهم في المرآة بتوجس. رغم حرارة الجو حينها، كان جسدي النحيل يرتجف من البرد، تدثرتُ بشعاع للشمس، كان يسترق النظر عبر ثقب صغير بشباك الغرفة، وضمتني كجنين متكور حول ذاته، ورحت أتساءل: ليه يا ربي بيحصلي كده؟

كيف استقبلت بدايات أنوثتي

كانت أحاديث صديقاتي الهامسة، خلال الفُسحة ما بين الحصص، كلها تدور عن ما شهدنه من علامات بلوغ، كنت ألمح موضوع النقاش -من التمتمات تعقبها ابتسامات خَجِلة ماكرة- عن بُعد، وهو ما كان يعطيني إشارة للاختفاء سريعًا، بينما اكتفت أمي ومن يكبرُنني من أخواتي بالعلم بالأمر، مع محاولات حثيثة منها على دفع إحداهن لإرشادي عبر عبارات مقتضبة، وهو ما زاد من فداحة الأمر بالنسبة لي: “يا إلهي، ما كل هذا الثقل الذي سأظل أحمله على ظهري لبقية حياتي!”.

بالنسبة لفتاة تُولي اهتمامًا خاصًا بهيئتها ومظهرها، مثّل لي تَطوُر هيئات الفتيات البالغات من حولي كارثة كبري، ما هذه الستائر المزركشة التي لففن بها أجسادهن؟ ما هذه الأزياء العجيبة التي تحولن إليها بسرعة البرق والتي تجعلهن يشبهن معلماتنا حد التطابق؟ ثم كيف لهذه التي كانت بالأمس طفلة، نتبادل معًا الدُمى أن تتحدث عن الزواج، بينما تختفي من ملامحها وهيئة ملابسها معالم البراءة رويدًا رويدًا؟ ومن فارس الأحلام هذا الذي تحلم باقتناصه؟ هذا العريس الذي صار هدف أهداف حياتها، الذي بددت قدما جواده دُمانا الصغيرة!

في الحقيقة، لم تكن لي أهداف واضحة في ذلك الحين، لكن ما أذكره أنني كنت أحلم بأن أصير شخصًا مؤثِرًا في هذا العالم الكبير، لم يكن أمر الأنوثة يعنيني، وبالتالي كانت هيئة “عروس المولد” هذه هي كابوس مُخيلتي الجديد، وبالطبع كان آخر ما أطمح فيه هو الظفر بذلك العريس “اللُقطة”، الذي هو حلمهن جميعًا، دوني، فلم يكن لدي بديل عن التمرد، حينها كنت أشعر بأنني فريدة من نوعي بين قريناتي، فلم أُطلع إحداهن على خطة أحلامي، إلا ووجدتها تُبدي تعثرًا في فهم تفاصيلها.

عروض الزواج الأولى

مع صغر سني حينها، كنت أفطِن لحقيقة أن الأنثى التي تظن أنها ليست أكثر من مجرد طُعم للاصطياد، أو لوحة جميلة تذهب لمن يُقَدِر أكثر، أنثى تمتهن أنوثتها، بل وأكثر مما يفعل المجتمع بها، وكانت أولى لدغاتي من عقرب الأنوثة ذلك، حينما كنت بالصف الثاني الثانوي وتقدم لخطبتي شاب في عامه الثاني بكلية الهندسة. حينما علمت بالأمر، هرولت نحو غرفتي وأغلقت الباب بإحكام ودخلت في نوبة بكاء هستيرية، “يا إلهي هل يُوافق أبي على شيء كهذا ويُرغمني على الأمر؟”، وظلت الأفكار تعبث بي حد الإنهاك، غير أن أمي الحبيبة حالت دون تفكير أبي بالأمر من أساسه.

لن أتحدث عن كل تلك المرات، خلال دراستي الجامعية، التي كُنت أتعرض فيها للعقاب من أبي، فقط لكوني أرد على عرض بالزواج يراه لا يُرفض، بالرفض، فقط لكون العريس يمتهن مهنة ذات صيت اجتماعي ذائع، أو كونه على درجة علمية فريدة، فقد مثّلت كل تلك المرات طوقًا من حديد يلف عنقي الطويل من كل اتجاه. عنقي الذي كان يرى خطوات مستقبلي من أعلى نقطة بي.

التمرد على الأنوثة

كل هذه الوقائع، جعلت من التمرد سبيلي الوحيد، فالهيئة المألوفة للأنثى لن تخدم قضيتي، ولن تُبلغني وجهتي مهما فعلت، لذا قررت بملء إرادتي أن أضعني في قالب ذكوري بحت، لا يُشير شيء فيه إلى الأنوثة، إلا ذلك القِرط بأذني، وبيد أن هذا الدور أعجب أول ما أعجب جدي -رحمه الله- فقد كان يدفعني دفعًا لمنازلة ابن عمي الذي يصغرني بعام، مرددًا “منى هتهزمك بسهولة “، وكان أبي يردد في زهو دائم، كلما جاءه من يشكو كوني ضربت ابنه، الذي قام بمغازلتي بينما أمر بالشارع، “منى بنتي بميت راجل.. وأنا واثق إنها متعملش إلا الصح”.

الحقيقة أن الدور راقني أنا الأخرى، فقد استطعت من خلاله خفض صوت تلك الأنثى بداخلي، حتى كدت لا أسمعه من الأساس، ومع اهتمامي ودأبي الشديدين بمظهري، لم أكن أطيل النظر في مرآتي، فمرت فترة مراهقتي كلها على هذ الحال، حتى أنهيت فترة دراستي بالثانوية، وبدأت “حبوب الشباب” تغزو جبهتي، حينها وصف لي الطبيب روتينًا للاهتمام بالبشرة، بحيث صرت أطالعها كثيرًا في المرآة، ومع أولى خطواتي للجامعة، بدأت أُشعر بصحوة متأخرة لتلك الأنثى بداخلي، وهو ما جعلني أشعر بالحياء المباغت مع كل كلمة غزل أو إطراء تقصدني.

لكن ذلك الشعور الذي حاكته أمي بعناية ودفعتني لارتدائه بكون كل الذكور أوغاد، وأني في حاجة دائمة لجعلهم يخشونني، كان دائمًا ما يتولى القيادة، ليأتي إصرار أبي على أن الوقت مناسب تمامًا للموافقة على أحد الخُطّاب، ووضع حد لهذه الدائرة، ليجعلني أسيرة لتلك الأنثى المسترجلة بداخلي.

رؤية مشوشة

الحقيقة أنني كنت بفعل هذه الأنوثة المزيفة مشوّشة، ولا أعلم شيئًا عن حقيقتي، وبالتالي عشت زمنًا أتعامل بمكابرة وعناد لا علاقة لهما بي شخصيًا، لكني الآن أدرك كم أنني كنت ضعيفة، أدعي عكس حقيقتي فقط كي أتمكن من النجاة، كنت أحفظ قوانين في الحياة وأُرددها كالببغاء، كالطاهي الذي يُشار إليه بالمهارة، بينما لم يذق أحدهم -في حقيقة الأمر- شيئًا من صُنع يديه، وبالأساس هو لم يملك يومًا شجاعة اللعب بأدوات الطعام وأبخرته.

أثق الآن أنني كنت شخصًا أحمق يفتقر لخبرة التجربة، وعاث بحياته وحياة من عرفهم فسادًا، فقط لأنه كان أضعف من المواجهة، لكن ما أنا أكيدة بشأنه أنني لن أُربي ابنتي على الشيء نفسه، حينما تأتيني مُحَمَلة بمخاوف التجربة، سأجعل من نفسي حائط صد فولاذي ضد أي ضغوط قد تتعرض لها، لئلا تنحاز لشيء يُناقض فطرتها، بحيث تختار بحرية ما تريده، والأهم من ذلك كله، أنني سأحرص على أن يكون لما تُريده في حياتها، هيئة وكيان يُرضيها ويُسعدها، لن أسعى لجعلها ذلك الطُعم سيئ السمعة، الذي يُكرس حياته لاصطياد عريس لُقطة، كما لن أدمر معالم الأنوثة فيها بدفعها لمناطحة خيالات المآتة، سأُحدثها عن عظمة كونها أنثى، من رحمها تولد الحياة، وبفضل حكمتها وقوة حدسها تُحل أعقد المشكلات، سأُعلمها أن كلماتي إليها قد تكون بلا قيمة حينما تخبرها التجربة شيئًا مغايرًا لها، فقد خُلقتُ في زمان غير زمانها.

الأنوثة الحقيقية

بعد عمر من الهروب، وجدت ضالتي حين عثرت على أنوثتي حية، أرشدني زوجي العزيز إليها، بصبر ومحبة ومرونة شديدة، أخبرني بحُسن عِشرته أنني وهو لسنا في حرب، ينتصر أحدنا، ليُعلن آخر هزيمته عبر راية مُنَكسة، وأنني لست في حاجة لإعلان أنني قوية، لأن القوة تُعلن عن نفسها متى وُجدت، ولست في حاجة لصوتٍ عال وعصبية وثورة، فبينما أنا ثائرة أُحاول إبلاغه بـ”حريتي خط أحمر” ولا أسمح لأي كان بالاقتراب منها، يخبرني بصوت هادئ أن حريتي واستقلال رأيي كانا أول ما لفتا انتباهه لي، وأنه رغم كل ما تعثر فيه بداخلي من عُقد مجتمعية ما زال يؤمن بأنني الأُنثى كما يجب أن تكون.

حين تعرفت بزوجي علمت عن نفسي حقائق كنت أجهلها، لكن تلك الأنثى المزيفة بداخلي كانت دائمًا ما ترفض الإذعان، بل والأكثر من ذلك كانت تفتعل المشكلات وكأنها تُحاول تشويش الرؤية، وبمرور الوقت معًا يظلّنا سقف واحد، كان يرفض مناقشتي تحته، بينما صوتي مرتفع ومُنفعل. وربما كانت الأنثى “المسترجلة” لتُفسد الحياة عليّ، لو أن خطاي تعثرت بأحد هؤلاء الضعفاء، الذين تستميلهم الأنثى المستقوية، هؤلاء ممن يحملون في أعماقهم ذكورة مزيفة، لا تقل سوءًا، عن أنوثتي المزيفة.

ما أشعر به بينما أكتب هذه السطور أنني حقًا ممتنة لكل المعرفة التي حصّلتها في طريقي، وكل الأشخاص الذين أعاد إيمانهم بي تشكيلي وجعلي النُسخة التي أريد، لأنثى تمتن للخالق كثيرًا على فطرتها، وتحتفي بتمام خلقه لتلك الفطرة مع كل مطالعة لمرآتها، أنثى تعلم أنها لو قَدّر الإله لها أن تكون أمًا لأنثى ستكون أنثى ذات نفسية سليمة وقلب ينبض بالجمال. فكل ما تحتاج إليه الفتاة كي تخرج مفعمة بالنور، ألا يتم حقن أعماقها بالظلام.

المقالة السابقةالدورة الشهرية الأولى: كيف تؤهلين ابنتك لسن البلوغ؟
المقالة القادمةLa La Land: نخب السينما والحياة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا