كيف يساعدنا التجرد على الامتنان

918

بقلم: ياسمين غبارة

سأبدأ الحديث بشخص قد يتفق عليه الكثير من الناس، وهو الدكتور “مصطفى محمود” الذى قال ببساطته المعهودة، ومنطقه المرتب: “ستستفيد من صلاتك نفسيًا وجسمانيًا بشكل لا تتخيله عندما تُدرب نفسك على التجرد من كل شيء قبل الدخول في الصلاة”، فقلت حسنًا سأنسى مشكلاتي وأفكاري وترتيبات يومي، وأحاول ألا أفكر في شيء، ولكنه استمر في الحديث وقال فيما معناه: “أن تضع جانبًا كل خواطرك وأوهامك وشكوكك وأحزانك وتدرك وتقرر أن صلتك بالخالق هي أكبر من كل ذلك”.

عقدت حاجبي، وبدت صعوبة الأمر تتضح على وجهي، فكيف أترك كل ذلك خارجًا قبل دخولى إلى الصلاة! قد أجد زرًا للتفكير بداخلي وأغلقه بضع لحظات متتالية، ولكن خواطر، مخاوف.. يا إلهي! كيف وأنا لا أعلم لها زرًا، فهي معي دومًا!. إحساسي بذاتى، شعوري سواء كان بالحزن أو الهم أو الاضطراب أو حتى الرضا، كل ذلك هو أنا، فكيف أتركني وأدخل إلى الصلاة؟!

اقرأ أيضًا: فى رحلة معرفة الله: القلب موصول بالخالق في كل وقت

كيف تعلمت التجرد من هواجسي

عندما عدت لأستمع لما يقوله مصطفى محمود، وجدته يكمل تعداد الأشياء بجملة أخيرة ويقول: “تنسى نفسك واسمك وذاتك وكيانك وصفتك في الحياة، تنسى كل شيء تكونه، فأنت في الصلاة فقط إنسان مخلوق لخالق عظيم”، وهنا ارتخت ملامح وجهي وانفكت عقدة حاجبي، ليس لأني وجدت لما يقوله سبيلاً في نفسي، بالعكس تمامًا، فقد أصبحت الفكرة بعيدة كل البعد عن قدرتي، ولكنها قريبة من استسلامي.

خالجني خاطر بأن كل ما نحتاج فعله لنتجرد هذا التجرد الكامل هو ليس مقاومة شيء ما بداخلنا، بقدر ما هو محاولة الاستسلام التام، أن نتخلى ونترك، ولكن هل فعل التخلي سهل كما يبدو؟! فالإنسان عنيد متمسك بذاته وكيانه وإحساسه، ويصعب عليه التخلي عنها حتى في الصلاة، أن تتخلى عن شيء فهذا يعني أنه ليس مهمًّـا لديك، ويبدو أننا مهمين لدى أنفسنا، ما نحن عليه، علاقاتنا الإنسانية، دراستنا، عملنا، عطاؤنا، مجهودنا في الحياة، سعينا، صورتنا، وانطباع الناس الثابت عنا، بيوتنا، أبناؤنا، طعامنا وشرابنا، استقرارنا، كل ذلك مهم، نحيا لنحافظ عليه ونصل به إلى بر الأمان، نتمسك به طوال الوقت، نقاوم من أجله وننسى، ننسى أن كل تلك الأشياء هي أدوار تم تكليفنا بها، ولكنها  ليست نحن ولا تكمن فيها الحقيقة.

أنت إنسان.. فقط إنسان

اكتشفت من كلمات الدكتور مصطفى محمود أن التجرد معناه أنك لست مهندسًا ولا مبرمجًا ولا طبيبةً ولا مذيعةً ولا حتى أمًا ولا أبًا ولا جدةً ولا جارًا ولا صديقةً، أنت لست مصطفى ولا محمد ولا كمال وأنتِ لستِ فقط  نهلة أو شيرين.. أنت انسان، خُلِقت حرًا كريمًا، أودع الله  فيك روحًا متعلقةً به، تحيا وترتدي صفاتك كالملابس من الخارج، لا يُفقدك تبدُّلها أو زوالها  قوة ولا حقيقة ولا أهمية، فأهميتك وحقيقتك لا تنعكس من خلال حسابات السوشيال ميديا ولا رأي الناس فيما تفعله وما تكونه، أهميتك ليست في عطائك ولا أدوارك.

اقرأ أيضًا: علاقة الابنة بأبيها: من مذكرات بنت الدكتور مصطفى محمود

كن حرًا حتى من أحب الصفات إليك؛ فإذا كان عملك يعطيك إحساسًا بالفخر والرضا عن نفسك وتشعر فيه بالتقدير، فستجد أن الصفة التي تحب أن تضع نفسك في إطارها أكبر وقت ممكن هي صفتك كمدير أو محاسب أو أيًا كان عملك، وإذا كانت علاقتك بأبنائك هي أفضل ما لديك، فستتعلق بدورك كأب أو دورِك كأم.

متى أصبحت أدوارنا هي مصدر أماننا وبطاقة تعريفنا التي إذا فقدناها تساءلنا: من نحن؟! أريد أن أنتبه وأتمنى أن أدرك حقًا أن أدوارنا ليست أفضل ما فينا، ربما بعضها يُخرِج أفضل ما فينا، ويدفع الحياة للأمام، ولكنها في حقيقتها مجرد إطار لصورتنا، إطار إذا تعلقنا به انحبسنا فيه ما بقي من العمر، وفقدنا التواصل مع الحياة إلا من خلاله.

قد يكون الهدف من حالة التجرد الكامل التي أشار إليها الدكتور مصطفى محمود هو تفريغ قالبنا البشري لاستقبال عطاء روحي، ولكنها أيضًا حالة تعطينا فرصة لنتحرر من سيطرة أدوارنا علينا، لحظات امتنان ورُقي روحي نتخلص فيها من التعلق والتمسك الذي أعيانا، حتى لو كان هذا التعلق هو تعلق بأنفسنا وبأدوارنا المختلفة في الحياة.

اقرأ أيضًا: الامتنان: سلاحي الذي حاربت به الاكتئاب

المقالة السابقة8 طقوس من الروحانيات تشحن روحك فيما تبقى من رمضان
المقالة القادمةمواصفات فارس الأحلام
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا