بيت البنات

1568

بقلم: دعاء إمام

في حلقة من حلقات المسلسل الأمريكي الشهير Friends كانت تبكي “مونيكا” لـ”رايتشيل” وهي تصرخ: I have to live with a boy. بعدما اتفقت مع صديقها “تشاندلر” على الانتقال للعيش معًا. كانت لحظة مؤثرة بينهما ومضحكة أيضًا. أعدت مشاهدة Friends مئات المرات ربما، ولكن بعد الزواج استوقفتني تلك الجملة تمامًا، أفكر في تلك العبارة التي قالتها وهي تبكي، بعدما كانت متحمسة للغاية للفكرة.

الآن فهمت ما كانت تعنيه “مونيكا”. أعتقد أننا الفتيات نتفهم جيدًا معنى أن ننتقل من بيوتنا للعيش مع رجل فجأة، خصوصًا في مثل حالتي، لم أعش أبدًا هذه التجربة، لم أحظ بأخٍ، لديّ شقيقتان، ظروف عمل والدي كانت تحتم عليه السفر لفترات طويلة في طفولتنا، وانفصل عنا عندما كبرنا، هذا بالإضافة إلى أننا لم تربطتنا به صلة قوية كصلتنا بأمي، وفي كل الأحوال من المؤكد حتى إذا كانت علاقتي به جيدة، فهي في الأغلب ستكون مختلفة تمامًا عن علاقتي بالشخص الذي سأختار الانتقال للسكن معه. هكذا كانت حياتي، أربع فتيات يتشاطرن الطعام والأفكار والصمت وحتى كوب الشاي.

الصباحات

في بيت البنات، نستيقظ جميعًا على صوت أمي وصكصكة أكواب النسكافيه الدافئة في الصينية التي تحملها، كما تحمل ابتسامتها على وجهها، تدعونا للنهوض متمتمة دعواتها لنا في حنان جميل.

في البيت الجديد، كل منا يستيقظ على حدة، لا نتشارك الصباحات إلا في أيام الإجازات الرسمية، والتي أقوم فيها بدور أمي غير المُقنع عليّ، لا نتقاسم فطورنا أو لون أشعة الشمس إلا نادرًا، أحاول أن أغمر البيت بالجزء البناتي في، فأكتفي بوضع اللانش بوكس في الثلاجة قبل النوم كي أبدو كزوجة مثالية.

المشاجرات

في بيت البنات، نتشاجر أنا وأخواتي على الكثير من الأمور، من منا سترتدي زيًا معينًا في اليوم التالي. أركض خلفها أخطفه منها وأدسُه في الدولاب وأغلقه بالمفتاح، فتركض أختي خلفي محاولة خطف المفتاح. نتشاجر أكثر لو قالت لي أنه يبدو عليها أجمل وأنني أبدو فيه كبقرة سمينة، أرد عليها بمئات الإهانات وأستعيد كرامتي بخطف قطعة أخرى ثمينة من دولابها، تكشف اللعبة فتأخذ عقدًا عزيزًا عليّ لتقول لي بأنها ستخفيه ولن أجده مرة أخرى، وهكذا نستمر. لا أدري متى حقًا ننتهي، ولكن نجد أنفسنا فجأة نشاهد فيلمًا سخيفًا أمام التلفاز، تخبرني بأنها ستعد لنا “جرعة حنية”. هكذا نطلق على المشروبات الدافئة، فأقول لها “أعدّي لي كوبًا من الشاي اللذيذ الذي تحسنين عمله“.​

في البيت الجديد لا تجري الأمور هكذا، الشجارات لا تنتهي فجأة، تمر بالمراحل الطبيعية، نقاش ثم اعتراض ثم خصام ثم نقاش. لا أجد من أتشاجر معه على ملابسي، كلها لي وحدي، واكتشفت أن هذا ممل جدًا، كل منا لديه جزء خاص لمقتنياته في الدولاب، أحيانًا أجمع بعضًا من ثيابي وأعطيها لهن، فقط لأراهنّ يتشاجرن فيما بينهن من منهن ستحصل عليها، فأستعيد ذلك الشعور مجددًا، وأبدأ في الشجار معهن بأنها بالأصل ملكي وسأستردها مرة أخرى وأرحل بها.

البكاء

في بيت البنات إذا بكت إحدانا نلتف حولها ونسمع، أو نبكي معها، أو نلقي دعابات تخفف من وطأة الموقف. في بيت البنات، نتفهم جميعنا بكاءنا غير المفهوم. لا حاجة لأسباب أو تبريرات، في مرة بكيت لأن أختي لم تعطني الآيبود الخاص بها، بكيت بشدة وأنا أخبرها بأنني أريد أن أستمع للموسيقى في طريقي للعمل، أخبرتني أنها كذلك؛ بكيت أكثر، لا أدري لماذا، ولكني وجدتها تقول لي “لا تبكي.. خذيه”، فرفضت وتركتها خلفي تضحك، حينما عدت في المساء وجدتها تاركة لي هدية على السرير “مشغل موسيقي جديد وبعض الشوكولاتة“.

في البيت الجديد، أحيانًا لا يفهم لماذا أبكي، ولا أجيد أيضًا شرح هذا بوضوح؛ أبدو كحمقاء تعيسة، أحاول الكلام فأبكي من جديد، أحاول وضع تبريرات لموقفي، أحاول أن أتذكر أي شيء يصلح أو لا يصلح كي أسِد به باب التساؤلات، فأجده يحاول أن يحلل الموقف بعقلانية ومنطق شديدين، فتصبح أسبابي تافهة ولا تستدعي هذا البكاء، أبكي أكثر لأنه لا يدع لي فرصة للبكاء. لماذا لا تتركني أبكي وأشكو في صمت؟ هل هذا كثير لأطلبه؟ سوف أبكي الآن لأنك لا تترك لي فرصة للبكاء!

الهدوء

في بيت البنات صوتنا ليس هادئًا على الإطلاق، تلك شائعة كاذبة جدًا، نصرخ في أوجه بعضنا بعض، حتى تأتي أمي فتصرخ فينا كلنا معلنة أن الآن جميع السكان باتوا يعرفون مشكلاتنا كلها، وأن صوتنا يفوق صوت الشقة المجاورة التي تسكنها أسرة بها خمسة شباب، بل أنها لم تسمع لهم صوتًا حتى اليوم.

في البيت الجديد لا نصرخ، أو لا نصرخ كثيرًا، نخاف أن نبدو كالبدائيين الجهلة، مثل الشقة التي تعلونا، نستمع لصراخهم وقذف الأثاث كل ليلة وندعو لهم. نتشاجر بصوت مهموس وهذا مرهق جدًا، متى يحق لي الصراخ ثانية؟ هل يجب أن أذهب لأمي وأخواتي في كل مرة كي أصرخ مثلاً؟

الفوضى والترتيب

في بيت البنات لا أشغل بالي بالغرفة المبعثرة، أمي تحن عليّ دائمًا وتقوم بهذا الدور، وأحيانًا أختي التي تعشق النظافة، كل فترة تعيد ترتيب الغرفة، تنقل السرير أسفل النافذة، والدولاب بجوار الباب، والأريكة في المنتصف، تمر شهور قليلة فتعيد ترتيب كل شيء مرة أخرى فتبدو كأنها غرفة جديدة، أخبرها بأن هذا التغيير يلائم تمامًا الحجرة، ويستغل المساحات المهدرة. بعد فترة قليلة، تعيد هذه العملية من جديد وأقول ذات الكلمات وأنا أعنيها في كل مرة.

في البيت الجديد ألملم الفوضى، مئات الجوارب الملقاة في كل صوب، أكواب فارغة مستعدة للغسيل، أنتظر أيامًا حتى أجر قدمي للبدء في الترتيب الذي دومًا أكرهه، لماذا لا ننتقل أنا وهو للعيش عند أمي؟! أنظر للغرفة وأود تغييرها كما تفعل أختي، أنظر لحجم الدولاب الذي سيقسم ظهري نصفين بالتأكيد إذا حاولت إزاحته شبرًا، ثم أحاول وضع تخيل جديد فأجد أنه سيكون أسوأ، أطرد الفكرة وأنام في هدوء.

البنات يعرفن ما نحتاجه جيدًا، أحضان طويلة، سهرة هادئة أمام النافذة ليلاً مع كوب دافئ من الكاكاو، حديث طويل أحمق عن أي شيء، موسيقى خافتة خليط من أذواقنا جميعًا، غداء بسيط أو حتى لا طهو على الإطلاق، أمسك بالهاتف لأطلب لنا بيتزا، حتى لا تقوم أمي من جلستنا الحميمة.

الحقيقة أن بيت البنات مليء بالحب، بالدفء والاحتواء، بالبكاء والدعم، مليء بكل ما أحتاجه في أي وقت. كنت أتمنى وأنا صغيرة أن تلد لنا أمي أخًا، ثم حمدت الله بأنها لم تفعل، كي لا يعكر صفو تلك الحياة وردية اللون التي عشتها.

اقرأ أيضًا: حب بطعم بأريع بنات

اقرأ أيضًا: دستة بنات

المقالة السابقةبالخطوات طريقة تعليم السباحة للمبتدئين بنفسك
المقالة القادمةكيف تعلمت الحياة من بطلات الأفلام
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا