التعامل مع المراهقين: كيف غيرت حياة طلابي وطالباتي

2658

أثناء رحلتي في مهنة التدريس يحدثني كثير من أولياء الأمور عن مشكلات أبنائهم، وخصوصًا صعوبة التعامل مع المراهقين وتغير الهرمونات ومحاولات التمرد وكسر مرحلة الطفولة بالخروج عن الصمت، والرد والإعلان عن وجودهم بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة. أسمع هذه الكلمة مرارًا وتكرارًا “اتصرفي معاه/ معاها يا ميس عهود، هو بيحبك وهيسمع كلامك، أنا تعبت”، أقدر تمامًا مقدار إرهاق الأمهات في التعامل مع أبنائهم، خصوصًا إن كن عاملات مكافحات، يسعين طوال الوقت ليوفرن لأبنائهم أفضل حياة ممكنة.

في الحقيقة وجدت نفسي أفكر كثيرًا، كنا مراهقين، فعلنا بأهلنا أكثر من ذلك، لكن إحقاقًا للحق فهذا الجيل مر بظروف صعبة، كانوا رُضع لأمهات شعرن بالرعب والذعر في فترة ثورة، نقلت الأمهات كل مشاعر الخوف والقلق لأبنائهن بشكل لا إرادي، جيل مر بحظر ونشأ بين جدران ولم يحظ بمتعة اللعب في الشارع، وأن يشاور لهم ذويهم من الشرفة بابتسامة كي يكملوا اللعب، ويطمئنوهم نحن هنا نشاهدكم ونشارككم، حضروا وباء وأصبحوا يرون العالم من خلف قناع مستترين تحت كمامة، فقدوا التواصل باللمس وأحضان معلميهم، والبعد عن أجدادهم مصدر الحنان والأمان والدلال مخافة نقل العدوى، تعرضوا للفقد في سن صغيرة بشكل مبالغ فيه، وأصبحت الجنازات أكثر من الأفراح، فقدوا الأعمام والخالات، وحتى بعض أصدقائهم، وهو شعور لا يستطيع معظم البالغين أن يتخطوه أو يتعافون منه بسهولة، فماذا ننتظر منهم؟!

تصفحت مذكراتي على مدار عشرة أعوام من التدريس، وجدت الإجابة في الصبر واستدامة التوجيه دون كلل أو ملل، تأرجحت بين مشاعر الغضب وفقدان الطاقة واليأس والإحباط، وبين النهايات السعيدة أو المحايدة.

التعامل مع الطالب اليتيم ومسؤولياته

لا يمكنني أن أنسى لحظة دخولي صيدلية، فإذا بفتاة جميلة واقفة تصرخ “ميس عهود!”، ثم احتضنتني وقبلتني وأحضرت كرسيًا وأجلستني، وكل ما أفكر فيه هو “لا بالتأكيد لم أكبر لهذه الدرجة”، يخترق صوتها أذني “أنا ياسمين، فاكراني؟ كنتي بتقوليلي دايمًا إنك متخيلاني دكتورة في صيدلية، مع إن درجاتي كلها كانت أبعد ما يكون عن الحلم ده”.

تذكرتها أخيرًا، كانت وحيدة تجلس في المقعد الأخير، لا تحب الاختلاط أو أن يجبرها أحد على الاختلاط، انتظرت وقت الفسحة وذهبت لأجلس معها وتحدثنا كثيرًا، عرفت منها أن والدتها متوفاة، وأباها يجبرها على رعاية إخوتها الصغار وأنها مرهقة باستمرار، وتأتي المدرسة متأففة ليس لديها طاقة لعمل أي شيء. ذهبت لإدارة المدرسة وتحدثت معهم لمحاولة تخفيف الواجبات عنها والاكتفاء بمذاكرتها فقط. شكرتني “ياسمين” كثيرًا، وقالت لي إن هذا سيساعدها ويخفف عنها. لم أفكر أن مثل هذا العمل البسيط قد يغير حياتها للأبد. كان هذا موقفًا من المواقف السهلة التي لم أبذل فيها مجهودًا، ولكنه بشكل ما غيَّر حياة “ياسمين”.

التعامل مع الطالب المشاغب المتحرش

مررت بمواقف أخرى صعبة جدًا، وعجزت عن تلجيم نوبات غضبي وانفعالاتي كثيرًا، كان لديَّ طالب في الصف الخامس الابتدائي، بدأت علاقتي به عندما عرفت أنه يدخن، راسب في جميع المواد، عندما يدخل أي مدرس الفصل قبل أن يبدأ يخرج هذا الطالب من الفصل، لأنه إن لم يفعل ذلك، لن يمر الأمر على ما يرام. حذرني منه الجميع قبل أن أستلم الفصل لأول مرة.

أول حصة اختبرني بالضحك المستمر، والمشاغبة والاستهزاء والسخرية من زملائه. وقفت بجانبه واقتربت منه وهمست في أذنه: “لكل فعل رد فعل”. لم يفهم واستمر في مشاكساته. انتهت الحصة، وطلبت من الطلاب الانصراف عدا هو، أمرته أن يحضر ورقة وقلمًا ويكتب فيها لماذا يكرهني، وقف صامتًا يفكر، لم يعرف الإجابة، وتقريبًا لأول مرة لم يرد أن يتطاول على مدرس، بعد برهة قال لي: “أنا لا أعرف الكتابة أصلاً، ولكني لا أكرهك، قولي لي الحروف لأكتبها، أريد أن أنصرف”، فقلت له: “إذًا لماذا تحبني؟”، فقال: “ولا أحبك أيضًا، هذه أول حصة، وأنا لا أعرفك”، فقلت له: “إذًا لماذا لا تحاول أن تعرفني قبل أن تقرر كيف ستعاملني؟”، صمت ولم يرد ورمقني بنظرة أقرب للاحتقار.

تركته يرحل، وبالصدفة في الحصة التالية وجدته واقفًا خارج الفصل، أو بمعنى أصح مطرودًا، فاستأذنت معلم الفصل أن يسمح له بالدخول وأني سأحضر معه الحصة وأجلس بجانبه وسأكون مسؤولة عنه، ظل صامتًا يحاول أن يفهم لماذا أشغل نفسي به. في هذه اللحظات كنت أتألم لأنه كان يشعرني دائمًا أني ثقيلة أو أطارده. ولكن مطاردتي له انقلبت بصداقة، ثم حب من نوع غريب، أو ربما تعلق. حكى لي كل ما يوجعه، أبوه الذي يضربه بالحزام، وأمه التي لم تحتضنه منذ سنين. ترَكتُ المدرسة بعد أن جعلتُ منه طالبًا يستطيع أن يجلس في الفصل دون أن يشاكس أصحابه.

ولكن يبدو أنه مر بانتكاسة أخرى بعد رحيلي، وتدهور الأمر إلى الإدمان ومحاولة التحرش بزميلاته، واستنجد بي كل من يعرفني وحتى من لا يعرفني لمحاولة استقطابه مرة أخرى، وهنا بدأت مرحلة أخرى تمامًا، فأهله فقدوا الأمل فيه، ولن يساعدوني إطلاقًا؛ لم يكن أمامي سوى أن أنفق على علاجه بنفسي، أو أطلب التبرع من أصدقائي والمحيطين بي لأتابع علاجه. لن أحكي عن التهرب من جلسات العلاج النفسي أو المشورة، أو الحديث معه بالصراخ مرة وبالبكاء مرة وبالعقل مرة، أو أنه كلما وعدني أخلف، ولكن في النهاية الحب والاهتمام ينتصران. فهو اليوم طالب بكلية التجارة، معجب بزميلة له في الجامعة، هو اليوم إنسان عادي، وهذا يكفيني فحسب.

استغلال الصراخ في هواية جديدة

أقربهم إلى قلبي كان طالبًا جديدًا انضم للمدرسة في وقت متأخر من العام الدراسي، لظروف عودته من الخارج، وبالتالي لم يكن متكيفًا مع أقرانه ولا مدرسته ولا في هذا البلد من الأساس. أذكر أن أول لقاء بيننا كان واقفًا يصرخ في لسبب ما، فأخبرته أنه يملك صوتًا جهوريًا يصلح لإلقاء الشعر، ويبدو أن عقله لم يستوعب أن ردي عليه لم يحتو عتابًا أو لومًا على الإطلاق. جاءني بعد الحصة معتذرًا، فقلت له لا تعتذر، صالحني بقصيدة، وقد كان.

حفظ أول قصيدة له، دربته على الإلقاء، الكثير من اللقاءات السرية والكثير من التدريب، ثم في صباح يوم أخرجته في الطابور ليلقي أول قصيدة له، أبكتني حرارة التصفيق ونظرات المعجبين به. تطور الأمر سريعًا ما بين حفلات المدرسة والمسابقات الشعرية على مستوى الإدارة. أصبح إنسانًا مختلفًا واثقًا من نفسه متفوقًا دراسيًا، محبوبًا من الجميع، ويوم صعوده على المسرح ولحظة تكريمه نظر لي بحب، ونزل مسرعًا عن المسرح لأحظى بأرق وأجمل وآخر حضن.

كيف تحولت الطالبة الخجولة إلى قائدة واثقة

“مها” الرائعة الخائفة الخجولة الهادئة، تسللت من خلفي وأنا أقرأ ديوانًا شعريًا، وبدأت تحاول تهجي الكلمات، ولكنها كانت صعبة عليها، فقرأتها عليها مرة واحدة، وكانت المفاجأة، أنها حفظت بعض الأبيات السهلة من أول مرة، وأخذت ترددها بسلاسة أمامي، وأنا في حالة صدمة. استطردَت تسأل عن معاني الكلمات وشرح الأبيات، فشرحت لها وقلت لها “هل تستطيعين حفظ القصيدة كاملة الآن؟”، فأخذت الكتاب، وفي اليوم التالي ألقت عليَّ قصيدة من ثلاثين بيتًا كاملة، جلسنا وافترشنا الأرض ساعات وساعات من التدريب على الإلقاء، وخرجنا بفيديو لقي انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي. قصيدة غيرت شخصية “مها” تغيرًا جذريًا من طالبة خجولة هادئة، إلى طالبة واثقة من نفسها ومحبوبة، واكتسبت العديد من مهارات القيادة في فترة قصيرة.


كيف تصاحب ابنك المراهق

من خلال تجاربي التي لم ولن تنتهي، أدركت أن تغير الأطفال في السن الصغيرة أشبه بعملية تحويل مسار، إن أردت أن تجذب طفلاً من منطقة ما فعليك أن توجِد البديل أولاً، فإذا أردت مثلاً أن تبعده أن أصدقاء السوء، فعليك أن تكسب ثقته وتحتل مكانة الأصدقاء لديه، توقف عن دور الواعظ الآمر، إلى المناقش المحلل. دعه يصل بنفسه للنتيجة التي ترجوها واثني عليه اجتهاده.

أما الأهم في كل ذلك فهو لا تتخلى عنه، لا تدعه يلتقي بدائرة أمان غير دائرتك، لأنه إن خرج لن يعود، البعض يظن أنه سيعود خائب الرجاء إن خرج من بيت أهله، لكن الواقع غير ذلك تمامًا. يخرج أبناؤنا من البيت مطرودين يجدون دوائر الأمان خاصتهم، يتبادلون الحب والاهتمام والسلوكيات بشكل عام سواء جيدة أو سيئة. وهو ما يفسر علاقة أطفال الشوارع بعضهم ببعض.

ارتكبت فتاة شابة خطأ ما ينافي العرف والتقاليد، لكنه لا ينافي الشرع، فانقلبت عائلتها رأسًا على عقب تشير بأصباع الاتهام، مرددين بحرقة أمام الشابات الصغيرات من بنات العائلة، أن من تحاول تقليدها ستخرج من رحمتنا للأبد. هذه العائلة تعامل الفتاة كأنها خرجت من الجنة. جميع فتيات العائلة خائفات، ولكن لا أظنه خوفًا من هيبة الموقف، لكن لأن كل وكبير وصغير في هذه العائلة لم يعد محل ثقة، سيفكرن ألف مرة لمن يلجأن حين يخطئن، فالعائلة أصبحت آخر اختياراتهن، كيف لعائلة كاملة ألا يقف فيها شخص واحد ويقول نحن أولى بأبنائنا وبناتنا من الغرباء؟! كيف لم يفكر أحدهم أن الخطأ وارد والغفران فطرة؟! لست أدري!

لذا عندما يسألني الناس عن سر علاقتي بأبنائي وطلابي، أخبرهم بأني لا أفقد الأمل بهم، ولا أتخلى عنهم تحت أي ظرف ولأي سبب، ورغم أن محاولاتي كلها ليست ناجحة، وبعض الحالات أصابتني بالاحباط، فإنني أتبنى السعي وإن لم أصل.

المقالة السابقةعلاقة الابنة بأبيها: من مذكرات بنت الدكتور مصطفى محمود
المقالة القادمةأنا الساخر

2 تعليقات

  1. رائعة أنا مثلك معلمة وكانت لي صولات وجولات مع طلابي أيضا وفي هذه الفترة أصابني الفتور ولا أهتم بهم مثلما كنت أفعل من قبل أعدتي لديا ذكريات عشتها من قبل مع تلاميذ ى وعاد إليا النشا ط من جديد♥️🌹

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا