أمارس السحر كل ليلة خلف باب غرفتي وأقرأ، كل كتاب هو تعويذة، شفرة لدخول عوالم أبعد من حواسي الخمس، فأغيب بين صفحاته في عالم آخر.
تجذبني السِيَر الذاتية بشكل خاص، ربما يدفعني إلى ذلك خطواتي غير المكتملة دائمًا.. طالبة ماجستير لأربعة أعوام أدرس الخطاب السياسي وتحولاته، أتركه قبل مناقشة الخطة البحثية بفترة قصيرة، بسبب خلافات مع المشرفة.
أم لا يكتمل لها حمل أبدًا.. وصحفية تترك عملها لتسافر مع حب عمرها للخليج بحثًا عن لقمة العيش.
في السير الذاتية أنسى وأتناسى خططي غير المكتملة؛ كل حكاية هي حكايتي الخاصة، كل نجاح هو نجاحي بين يدي القصة كاملة منذ البداية وحتى النهاية.
أقرأ لأن الكون ضيق، وعالمي صغير لا يتسع للضجيج الذي يسكنني، كل شيء يتقلص والمساحات تضيق، كل شيء يدفعني للكتاب، الغربة والوحدة والحب والضجر وحلم الأمومة، أحب تبادل الأدوار، أحب أن أصبح قديسة وعاهرة وحبيبة وعشيقة ورائد فضاء وشيخ الجامع الذي يصلي الفجر ويذهب لمضاجعة زوجة جاره. الكتاب كله لي، الكتاب مسرحي وكل الأدوار لي.
أن أقرأ يعني أن أخرج مني، أقرأ لأن أنفًا واحدة لا تجعلني أتنفس جيدًا، عينًا واحدة لا تسمح لي برؤية العالم كما أحب، وقلبًا واحدًا لا يجعلني أستمتع بتفاصيل الحياة.
للكتب دفء يعينني على برودة الغربة، ملمس الورق، صوت تقليب الصفحات رائحة الوردات المجففة في الكتب المنسية كلها تزيدني تورطًا في القراءة.
أقرأ لأنني امرأة ذات خيال متواضع لا تستطيع الكتابة، تنقصني الحبكة والمغامرة، خجلي يدفعني للاختباء خلف الكتب مأخوذة بسحر الكلمة. أتساءل من أين يأتي الكتاب بكل هذا الشجن والحب والجنون! كيف يستطعون نسج حكايات رائعة من تفاصيل بسيطة وعادية لكنها مدهشة؟ كيف يجعلونك تتعاطف مع مجرم أو تعشق وطنًا لم تره أو تتورط مع شخص في قصة حب ليست لك؟ كيف تشعر بغصة لهزيمة أو فرحة توقف قلبك لنصر لا تملك منه شيئًا؟
أقرأ كنوع من عرفان الجميل لعمي أحمد، شقيق أبي الأكبر، عمي الذي أدخلني عالم القراءة وصنع فيّ المعروف الذي يمكن أن نطلق عليه خدمة العمر، عمي الذي أمدني بخبرته وكتبه ومكتبته، عمي الذي أهداني أهم ما في مكتبته، وقتها لم أكن أقدّر حجم ما يفعل، لم أكن أعلم معنى أن تهدي شخصًا كتابًا، كل كتاب أهداه لي يشكل جزءًا مني.
أقرأ لأتخيل أنني أقرأ لأطفالي القادمين.. مؤخرًا بدأت في قراءة كتب الأطفال مأخوذة بغريزة الأمومة، أسست مكتبة صغيرة على شكل فراشة كبيرة ملونة، بدأت في اختيار مجموعة من الكتب لمراحل عمرية مختلفة، وحددت متى سأبدأ وكيف. سأقرأ لجنيني بصوتٍ عالٍ، ولكن حنون يدي تربت على بطني في إيقاع هادئ.
أقرأ كي إن قُدِّرَت لي الأمومة ذات يوم أجد ما أحكيه، أقرأ لكي أتنفس، أقرأ لأن في القراءة حياة.
أقرأ في التاريخ والفلسفة وعلم النفس وعن الجنون (تاريخ الجنون)، كل شيء عن الجنون يستهويني يدفعني للبحث عن ماهيته، كيف يحدث وأي جزء يصاب في الإنسان، هل يصيب عقله أم هويته أم قلبه؟ ما الذي يصيبه العطب بالتحديد؟ من أين يأتي الخلل لكي نقول إن فلانًا مجنون؟
أقرأ حتى أتوازن مع نفسي، أقرأ حتى لا يخبروا أبنائي الذين لم يأتوا بعد أن أمهم جُنّت في الغربة.