نوبة هلع

610

بقلم: مروة صبحي

لم تتخيل “نور” أنها ستفزع إلى هذه الدرجة بعد أن انفجر إطار السيارة المجاورة لها. “إنه لا شيء مجرد إطار سيارة، اهدئي، شهيق زفير، شهييق زفير”. هكذا ظلت نور تحدث نفسها داخل سيارتها بعد أن أوقفتها بسرعة على جانب الطريق.

زيارة نوبات الهلع

اعتادت “نور” أن تحدث نفسها بصوت عالٍ فى الآونة الأخيرة، كي تسيطر على نوبات الهلع، التي زادت حدتها مؤخرًا، بالرغم من لجوئها لأشهر الأطباء النفسيين. ظلت مضطربة قليلاً بعد ما حدث. كان حادث صباحي صغير كافيًا لجعل يومها سيئًا بالكامل. أخذت تفكر كثيرًا وهي في طريق عملها بالمدرسة: “هل كانت أمها محقة بشأن أن كل ما تعانيه هو نتيجة لوحدتها وعدم موافقتها على من يتقدمون لخطبتها، وأنه لا فائدة من كل ما تفعله من علاجات نفسية، ومواهب قد نسيت وجودها بالكامل تحاول الرجوع إليها الآن؟”.

بعد كل ذلك الوقت اكتشفت “نور” أن صوت والدتها بداخلها أقوي من أصوات جميع المعالجين والأطباء النفسيين، الذين لجأت إليهم، وأنها لا زالت تتأثر بما تقوله دائمًا، بالرغم من محاولاتها العديدة بألا تتأثر بكلماتها، لعل طبيبها النفسي الأخير محق تمامًا بشأن ما قاله من ضرورة محاولة إصلاح العلاقة بينهما. لكن كيف؟ فهي تدرك تمامًا أن والدتها ليست من النوع الذي يقدر المشاعر أو يتحدث عنها. أخبرها طبيبها أن هذا هو حقها الذي يجب أن تطلبه بقوة من والدتها، لكنها لم تقتنع، وكأنها يئست بالكامل من تلك العلاقة، التي لم تختبر بها سوى الكثير من الأوامر الصارمة والنواهي المحرمة.

دخلت نور المدرسة متجهة سريعًا لغرفة المعلمين. ألقت سلامًا خافتًا متمنية ألا يسمعه أحد، فقد كانت نظرة واحدة لتكشف أنها تعاني خطبًا ما. انشغلت بأعمالها الورقية لتحضير دروس اليوم. دخلت “ميس إيمان” مشرفة المعلمين الغرفة، امرأة خمسينية جميلة الملامح هادئة الطباع، متألقة دائمًا في ثيابها البسيطة التي تحوك معظمها بنفسها. يضفي الكُحل الذي تضعه بطريقة تقليدية بريقًا مميزًا على عينيها البنيّتين. تلك السيدة التي تشعرك دائمًا أن الأمور بخير، وأن قطعة من بسكويت اليانسون خاصتها كافية لمواجهة قُبح هذا العالم.

ابتسمت لها “نور” وهي ترد لها التحية، لكن سرعان ما تذكرت شجارها مع والدتها ذلك الصباح بشأن العريس الذي جاء من طرف خالتها ورفضته “نور”. أخبرتها والدتها أنها ستصبح عانسًا إذا استمرت في رفض كل من يتقدم لخطبتها، وعليها أن تلحق بقطار الزواج الذي أوشك أن يفوتها بعد بلوغها الثلاثين.

لحظة أمان

“ها هي مرة أخرى، ليس الآن، ليس هنا”، تلك المرة لم تجدِ محاولات “نور” للسيطرة على نوبة الهلع. ها هي أصلاً بنوبة أخرى، أو بالأحرى تكمل ما لم تستطع معالجته تمامًا هذا الصباح. لم تفد تمارين التنفس، ولا حديث النفس. بدأت تشعر “نور” بضيق التنفس والإحساس اللعين بالموت الوشيك. 

تجمّع زملاؤها حولها، ليزيد إحساس الاختناق لديها. قامت “ميس إيمان” بصرفهم بهدوء خارج الغرفة. أمسكت يد “نور”، لم تقل شيئًا سوى “أنا هنا معك، لابأس“. هدأت “نور” تدريجيًا، لحظة أمان واحدة كانت كفيلة بإنهاء هذا الهُراء كله، بلا مهدئات، بلا تمارين تنفس، فقط لحظة أمان حقيقية. كانت “نور” ممتنة لتلك اللحظة كثيرًا. ستظل ممتنة لها كلما تذكرت الأمان التي منحته إياها تلك السيدة الرائعة.

اتجهت “نور” بعد انتهائها من العمل للمنزل مباشرة. كانت عازمة على التحدث مع والدتها لأول مرة بشأن ما تشعر به. قررت أخيرًا أنها إذا كانت تريد علاجًا حقيقيًا لما تعانيه فعليها التحدث مع والدتها. دخلت “نور” المنزل لتجد والدتها مشغولة في المطبخ. طلبت منها التحدث معها بشأن هام. أخبرتها والدتها أن الحديث يمكن أن ينتظر لبعد الغداء. كانت “نور” عازمة على التحدث وأصرت أنها تحتاج والدتها الآن. 

حديث مؤجل ومواجهة حتمية

تحدثت معها “نور”، أخبرتها لأول مرة عن احتياجها إلى حضن والدتها الذي لم تحظ به من قبل. أخبرتها عن مدى حبها لها وعن مخاوفها وأحلامها. انهارت “نور” في البكاء وهي تحدث والدتها، التي ما كان منها إلا أن احتضنتها، للمرة الأولى حسب ما تتذكر “نور”. ظلت طويلاً بين أحضان والدتها، كأنها تريد تعويض كل الأحضان التي فاتتها في الماضي.

أدركت “نور” أنها لم تكن الوحيدة التي تحتاج ذلك الحضن فقد كانت والدتها أشد احتياجًا له هي الأخرى. كان ذلك الحضن بمثابة عقد وقعتاه معًا. عقد بين أم عاشت حبيسة لمجتمع علمها قمع المشاعر لسنوات طويلة، وفتاة أدركت لأول مرة دفء حضن والدتها.

المقالة السابقةالموسيقى أحد مصادر الدعم النفسي
المقالة القادمةلحماية نفسك من العنف على مواقع التواصل الاجتماعي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا