لقد وقعت في الحفرة

895

 

بقلم/ رضوى سعودي

 

حلقة مستمرة بدايتها فراغ ونهايتها قاتمة لا يكاد المرء أن يراها. نسير على خطوط هذه الحلقة بأمل أن نجد النهاية أو البداية، ولكن مهما فكرنا فنحن دائمًا في المنتصف لا نعرف كيف أو متى دخلنا، ولا نفهم تلك الغمامة السوداء التي خيمت على قلوبنا. ففي الأمس كان القلب يضحك واليوم حاصرته الهموم.

 

دون إدراك منك تتسلل تلك الغمامة السوداء وتنقض على صدرك فتقبضه، تحس بالاختناق ثم تنتشر حتى تصل إلى عقلك، فتغلق أبواب الأمل والذكريات وتنسيك هدفك وتجعل أفكارك سوداء، وتكون ضحيتها الثالثة عينيك، فتسوَّد الحياة في نظرك وكل ما كان جميلاً يسعد أيامك يومًا يصبح عبئًا تحمله، وتشعر أن لا شيء يستطيع إسعادك، حينها تدرك أنك وقعت في الحفرة بلا حبل أو سلم نجاة أو منفذ للهروب.

 

مرض الملل المزمن ينشأ نتيجة الروتين وانعدام الدافع أو نسيانه، فلكل منا حياة منظمة، ولكل منا مسؤوليات، ولكن أحيانًا نشعر أننا نضيق بحياتنا وكأننا فجأة استيقظنا في أحد الأيام لنجد أننا في حالة من الضجر من الحياة بأكملها.

من بين أعراض الملل المزمن الشعور باليأس والافتقار إلى الحافز، والأرق وعدم القدرة على الاستمتاع بالحياة. تظهر على المصابين بالملل المزمن أعراض جسدية أيضًا، مثل مشكلات المعدة أو الدوار أو طنين الأذن أو الصداع أو التعب. هذه الشكاوى تأتي نتيجة لغياب الحافز أو قلة العمل.

 

“في بداية الأمر، غالبًا ما يتولد شعور غامض في العقل الباطن بأن هناك شيئًا ما ليس على ما يرام”.. هذا ما قاله فولفجانج ميركله، وهو طبيب نفسي من مدينة فرانكفورت الألمانية، وأكمل قائلًا: “مجتمعنا منقسم، إذا جاز التعبير، فالأشخاص الناجحون يعانون من الإرهاق المزمن ويجذبون إليهم كل الأنظار والاهتمام. ولكن ليس هناك اهتمام يذكر تجاه الأشخاص الذين يعانون من الملل المزمن، رغم أنه تظهر عليهم نفس الأعراض تقريبُا”. هنا أشار الطبيب لتجاهل المجتمع لمن وقع في الحفرة وحاصره الملل المزمن، فعادة ما تقابل الصحة النفسية السخرية، فهل يمكن للنفس وهي كيان غير مادي أن يمرض؟!

 

ومن هنا تبدأ معاناة مرضى الملل المزمن، فالمريض لا يفهم سبب انقباض صدره ولا يستطيع أن يحدد كيف ومتى وأين، فَقَدَ دافعه، بل إنه لا يعلم أن سبب ظلام الحياة بعينيه هو فقدان دافعه. القاطن في الحفرة يحاول الصعود ولكن مهما قفز فإنها قفزة ضعيفة لن تخرجه من مأزقه، ومهما استنجد فكل من يسمع نداءه سيهزأ منه، فهو لا يرى الحفرة، إنما يراك ممدًا لا تريد الحراك، فيتهمك بالكسل وادعاء المرض، فكيف يمكن لأحد أن يمرض من قلة العمل؟

 

ولا ينقص المريض حكم المجتمع، ففي عقله هناك محاكمة قائمة بالفعل يدافع فيها القلب عن نفسه، مشيرًا إلى الغمامة السوداء التي غيمت عليه، فحجبت الأمل وعطلت وظائفه، بينما يرد العقل أن هذا غير معقول فلا يوجد سبب واضح لوجود تلك الغمامة، فيتصارع المتحاكمون ويظل المريض ممزقًا لا يعلم كيف يخرج من هذه الحلقة.

 

قد تكون الخطوة التالية هي السير إلى الوراء واسترجاع الخطى، حتى يجد المريض ما أضاعه، لعله يخرج من حفرته، وقد تكون تلك الخطوة هي التجاهل حتى تتشبع الروح بهذه الغمامة فتنطفئ، إما بموت لإنهاء متاهة متكررة وإما بعيش حباة قاتمة نهايتها بداية وبدايتها نهاية، وتظل تتكرر في دائرة مظلمة. فإذا استطعت أن تمد يد العون لمن رأيت الغمامة تتسرب إليه فمدها واسحبه من الحفرة، فحتى إن كنت لا تراها فهذا لا يعنى أنها غير موجودة.

 

معاناة مرضى الملل المزمن

 

المقالة السابقةبعض من التنمر
المقالة القادمةالسخرية.. فن السم في العسل
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا