عن الشغف القديم

478

 

بقلم/ آية إبراهيم

في كل خطوة لك في طريق الحياة تفقد جزءًا من روحك القديمة التي أتيت بها إلى هذا العالم، تتساقط ورقات ربيعك وتضحى في كل مرة آخر غير الذي كنت عليه يومًا، في كل خطوة تحاول بقوة استعادة المفقود منك، والذي تؤمن أنه ما زال من حقك وأنه لا يسقط بالتقادم. تسقط في هوة الزمن والساعات واللحظات والأيام المتواترة، تحاول أن تعيد لنفسك المفقود وترمم الماضي مع الواقع، فيسقط منك الواقع ليصبح هو الآخر اشتياقًا جامحًا قد أفلته منك في محاولاتك البائسة في استعادة الروح القديمة والزمن القديم.

 

تستدعي الذاكرة بما تحب وتهوى، تقرب لها قطعة من حلوى الشغف القديم. قطعة حب صغير وأنشودة كثيرًا ما طربت لها قديمًا وبعضًا من عطر منسي في مكان سحيق منها، تتفنن في تحضير روح الشغف القديم وتقرأ عليه سطور الياسمين والوله الأولى. يزعجك ذاك الوجه المجهد للذاكرة الهرمة وتلك التجاعيد المؤلمة التي تخبرك بكل هدوء “لا أستطيع أن أعود كما تحب وكما تريد.. من فضلك تقبلني هكذا ولا تفتش في جيوب قلبي ووجداني. ستجد فقط على وجهي بقايا الحلو والمر”. فترتحل عنها باكيًا متحسرًا وفي قلبك غصة الشغف القديم الذي لم تعد تشعر به مثل أيام الذاكرة الأولى والروح الجديدة النهمة.

 

في حب الأشياء نتورط ونتعلق ونترك لها عنان القلب والوجدان، فتملكنا أشياء بعينها وأخرى لا نلقي لها بالاً ثم تتبدل الأشياء شغفًا وحبًا وصدًّا وتركًا. لكنها ليست نهاية الحياة، بل نهايات المراحل التي تصبح فيها في كل مرة إنسانًا غير الذي كنت. تتناقص نفسك وينضج روحك، هذه هي الحقيقة. إن الذي يتناقص منك حقًا هو نفسك وليس روحك، وتأخذ ذاكرتك في جمع مقتنيات عمرك الثمينة بحلوها ومرها، بكبيرها وصغيرها، لتعرضه عليك حين تستدعيها أنت بالذكرى والحنين.

 

ينضج روحك من خبرات المراحل المتعاقبة عليك، وتتبدى لك في كل مرحلة أمور تشغف بها عن ذي قبل. فلا تحاول أن تُخرج من أدراج الذاكرة نفسك القديمة بمقياس نفسك الآنية، فتسقط في فخ الحزن والنقصان. إن صناعة الذكريات في كل مرحلة جديدة من عمرك من أجمل النعم التي يمن بها الله علينا، فهي تعلمك التغافل عن الأوجاع واستذكار النعم وحمد الله عليها مهما كانت الأسباب والأحوال، لأن الحياة طالت أو قصرت يومًا ستودعنا عند منازل الآخرة الباقية، والتي لن يفنى فيها حب أو شغف، إن الحياة بمقياس الماضي موت أكيد، وإن التمني لن يغني ولن يسمن من جوع، فلا تشرع نوافذ الذاكرة على القديم، ولا تمُدَّن عينيك فتضيع اللحظة الآنية التي تدعوك الآن لذكريات حاضرة بإرادة واعية و روح ناضجة راضية بالله.

 

 

 

المقالة السابقة“نجومٌ على الأرضِ”.. عن العبقرية المغطاة
المقالة القادمة10 نصائح ستُساعدك على اكتشاف جانبك الإبداعي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا