لستُ من عاشقي الأفلام الهندية.. لكنني حين التقيتُ صدفةً بذلك الفيلم، عرفتُ أن لي حظًا ما وأنني كنتُ على خطأ حين قمت بمعصيةِ العنصرية، وقلت في نفسي إن كل الأفلام الهندية أغانٍ ورقصات وأشخاصٌ يطيرون.
Taare Zameen Par أو نجوم على الأرض.. يختلفُ كثيرًا.
“إيشان” الصغير هو البطل المنتظَر.. هو حُلم الحياة الحقيقي الذي نسيناه، أو تناسيناه حين ألِفنا الملل والعمل غير الممتع والرتابة.. حين غزتْ حياتنا أشياء أخرى سوى الحياة، حين أصبحنا آخرين لا يسعدون لأنفسهم.. بل ليقوموا بما حمَّلَنا الآخرون مسؤوليته، فسِرنا مع القطيع.. لا نعرف إن كُنا سعداء، لا نعرف إن كنا نعيش.
“إيشان” وحده يعيش الحياة كما يحبها.. يستمتع.. يندهش.. يشاهد الأشياء.. يمزجُ الألوان فيخلقُ حياةً موازيةً رائعة.. يلعبُ.. يتخيلُ.. يعيش. “إيشان” ينظر للحياة من ناحيةٍ أخرى، من فرجةٍ صغيرة تتسع لعالمه الصغير. “إيشان” الذي يمارس الحياة كما ينبغي، يعاني من إحدى صعوبات التعلم الشهيرة “ديسليكسيا” أو عسر القراءة. ربما لا يعرفها الجميع، لكنها تبرر انحدار مستوى “إيشان” الأكاديمي في مدرسته رغم مهاراته وقدراته الفنية الواضحة للجميع.
ربما لا يعرفها الجميع، لكن لا بد أن يدرك المعلمون مثل تلك الصعوبات.
لكن.. لأن الآخرين لا يحلو لهم أن يروْا من يعيش على غير ما يعيشون، فقد كرهوا أن يروا “إيشان” يعيش حياةً مغايرة.. رأوا فيه تهديدًا لانضباط حياتهم.. رأوه فاشلاً، غير مطيع. رأوا أن عليهم أن يقوِّموه ليسير على نفس النهج البائس.. هكذا رأى أبوه على الأقل وقرر أن على “إيشان” الصغير أن يُعاقَب.. يعاقَب على اختلافِه، على نهجه الغريب عليهم.
كم هو بائسٌ أن تعاقَب على اللا شيء الذي قمت به!
مشهد “إيشان” وهو يودّع أسرته التي لا يملك أن يستبقيهم، ولا امتلك قرار بقائه بينهم، حزين للغاية.. يبقيكَ لحظاتٍ غير قادرٍ على التخيل.. غير قادرٍ إلا على الاندهاش من قدرة البعض الهائلة على القسوة.
وهكذا ينتقل “إيشان” إلى مدرسة داخلية بعيدة.. حيث لا نشعر بالدهشة من أساليب التعليم الهندية الشقيقة، الحفظ، قتل الفهم والإبداع، الخوف.
ينثني “إيشان” للداخل، يتحول لقزمٍ ضئيل كي لا يراه أحد. هل حدث ذلك بالفعل أم أنا التي أتخيل؟
“إيشان” المغامر يتذوق التقليدية ويألفها رغمًا عنه. يرهب العصا الغليظة التي يضربون بها الصبية الذين يفكرون كثيرًا. لسان حالهم يقول “أنت في المدرسة هنا.. احفظ فحسب.. سر داخل الحائط لتعيش”.
لَكَم ذكرتني مرارة هذا الفيلم برواية “عالم رائع جديد” Brave New World، للكاتب “ألدوس هيكسلي” عن المستقبل المنتَظَر، حيث أصبح الخاصة يحددون القدرات العقلية والجسدية للأجنَّة بطريقة ما، بحيث يعرفون مسبقًا كيف سيكون هذا الطفل، ويتم تحديد عمله ربما قبل أن يولد، ولأن قدراته العقلية محدودة للغايةِ فإنه لا يفكر/ أو يأمل حتى في تغيير مساره المحتوم هذا أبدًا.
هل أصبح أنا أيضًا كذلك مع أطفالي حين أطلب منهم الالتصاق بالقواعد التي لا يدركونها بعد؟ هل أنزع عنهم روعتهم بطلباتي الكثيرة؟
ويسمع “إيشان” الكلام.. يصبح كما يرغبون؛ تنطفئ روحه.
ثم يظهر نجمٌ جديد في الأفق.. معلمٌ جديد، يعرّفهم به في أول لقاءٍ لهم به بأغنيةٍ رائعة يقول فيها: “حرر عقلك، انشر أجنحتك”، في حين يغطي الآخرون عقول الأطفال الواسعة بالملل والحفظ، والضرب أحيانًا.
يجذبه صمت الطفل الصغير، فيسير خلف خيوطه الكثيرة إلى أن يكتشف معاناته ويسعى لمساعدته بحنانٍ وفهم كبيريْن. يحبُّه “إيشان”، ويتبعه. تكاد تنحلُّ عقدته الكبيرة، يعودُ لمرحه، لابتكاراته، لرسمِهِ وركضه، يعود طفلاً حقيقيًا لا مجرد روبوت تابعٍ كما يريدون له.
قد يعاني طفلك من مشكلة ما، وقد لا يعاني لكنكَ قد تُكسِبه إحداها بتجاهلِك إبداع ابنك.. بإصراركَ على أن يتعامل بطريقة محددة تفضلها أنت.. بتفضيلك ابنًا آخر يتقدمه في الدراسة مثلاً. لكلٍ من أطفالنا هبة ما/ موهبة/ قدرة/ شيء يفضل القيام به. اكتشف قدرة ابنك أو ما يحبه وأظهِر تقديرًا كبيرًا له. متِّعه بحُبِّكَ وحنانك، وأهم من كل ذلك امنحه احترامًا خاصًا لشخصيته المميزة.
أرجوكم انتصروا لهم.. لا لمعتقداكم ورغباتكم الخاصة.
دعوهم يفتخروا بأنفسهم وبكم.
دعوا إبداعهم الخاص ينال تقديركم.
لا تفعلوا بأطفالكم ذلك.. لا تحوّلوا حياتهم لمعاناة.