رحله الاکتئاب والتقبل

844

بقلم/ مها متولي

 

أتذكر أيامي الأولى مع الاكتئاب.. لم أكن أعي أنه اكتئاب. عندما مرضت أمي وخضعت لجراحة خطيرة لاستصال ورم بالمخ، كنت في الثالثة عشر من عمري، وجدت نفسي دون مقدمات أنزوي، جلست يومين في حجرتي المظلمة دون طعام ولا بكاء، أشعر بخوف وأرتجف. الآلام تعتصر جسدي، تشل حركتي. فقدت عشرة كليوجرامات من وزني، لم يكن لديَّ رغبة في اللعب أو التنزه، بالرغم من محاولات صدیقاتي.

 

بعد هذين الیومين خرجت من الغرفة شاحبة اللون، منحنية الكتفين، تحيط عيني الهالات السوداء. عندما نظرت في المرآة لم أعرفني، وجدت شبح إنسانة؛ لُمت نفسي کثیرًا؛ کیف لي أن أحزن وأنغلق علی نفسي وأترك أخواي الصغيرین اللذين کان أکبرهما لم یتعد السنوات السبع بعد أن أخذ المرض أمهما؟! نحیت اکتئابي جانبًا وانشغلت بهما لمدة أربعة أشهر متواصلة، إلی أن تعافت أمي.

 

تعافت أمي وکل شيء أصبح علی ما یرام، لكني انزویت مرة أخری. کنت في الثانویة العامة. تقوقعت داخل ذاتي ولم أعد أقابل رفيقاتي، لم تکن لي شهیة للطعام. أجلس بمفردي وسط کتبي، أشعر الفشل والإحباط والخوف والشفقة على نفسي.. أبکي بکاء متواصلاً بلا أسباب. وانتهت تلك الفترة بحصولي علی مجموع 95% وانتقالي إلی الجامعة.. ولا زلت لا أعي أن ما یصیبني اکتئاب.

 

مع انتقالي للجامعة کانت مرحلة جدیدة في حیاتي، ومرحلة جدیدة مع الاکتئاب.. الدرجات التي حصلت علیها لم تؤهلني لکلیة الصیدلة کما حلمت، والتحقت بکلیة أخری، وترکت المدینة الساحلیة التي عشت فيها طفولتي، لأعود إلی بیت جدتي في القاهرة الصاخبة بمفردي، بلا أمي ولا أخوي، وحتی جدتي کانت قد توفاها الله.

 

کان البیت ذو الجدران العالية کبیرًا وخاویًا، بالرغم من اتساعه لكن کنت أشعر بجدرانه تقترب مني، حتی کادت تخنقني، وغمرتني سحابة الاکتئاب المعتمة مرة أخرى. أستیقظ من نومي بلا أمل، أجر قدمي لأذهب إلی الكلية، لا آکل تقریبًا، عاد ظهري ينحني وعادت إليَّ مشاعر الخوف والوحدة واليأس، بلا أهل وبلا أصدقاء. أعود في نهایة یومي لا أشتهي طعامًا. أبكي حتی أنام لا أرید الاستیقاظ.

 

في تلك الآونة تعرفت إلی إحدی الصدیقات، والتي لاحظت فقداني لوزني وشحوب وجهي وسکوتي الدائم، فعندما أبلغتها عن حالي قالت إني أمر باکتئاب، وأحتاج أن أعود إلى الله وأنتظم في الصلاة.

أنا لم أقطع صلاتي! قالت لي: قربي أکثر من الله، فالبعد عنه اکتئاب. ودار في ذهني سؤال: هل أنا بعیدة عن الله بسبب اکتئابي، أم بعدي عن الله هو سبب اکتئابي؟!

 

تعاظمت بداخلی مشاعر الذنب والفشل والشفقة علی الذات، وشعور بالضآلة، أصبحت كل خلية في جسدي تؤلمني وترتجف، دموع حارقة أشعر معها بوخز في صدري، وعندها أمسكت آلة حادة وحاولت إنهاء حياتي، وفي اللحظة الأخيرة انتصر خوفي من عقاب الآخرة ونجوت بحياتي.

 

کل هذا لم أکن أعي أن الاکتئاب مرض، أقنعت نفسي أنه مجرد شعور بالإحباط والیأس، أو ربما قلة إیمان. ونحَّیته جانبًا مرة أخری.

 

بدأت أعي معنی الاکتئاب عندما أصیبت إحدى قريباتي باکتئاب ثنائي القطب، والذي جعلها تُحجَز في مصحة لعدة أسابیع، فقد کانت في درجة متقدمة منه. فهي کانت تتعرض لنوبات الهوس والاکتئاب معًا.. هنا وقفت قلیلاً وتساءلت: هل الاکتئاب مرض فعلاً؟ هل یستدعي دخولنا المشفى ولجوئنا للأطباء؟

 

من هنا بدأت رحلة البحث عن ماهیة الاکتئاب وکیفية التعافي. عرفت أن الاکتئاب في تصنیف الأطباء هو مرض عضوي يؤثر علی نفسیة الإنسان، لأنه نتيجة نقص في بعض الهرمونات، والذي يؤدي إلی تغییر في کیمياء المخ.

 

هنا قررت اللجوء إلى طبيب نفسي، ولكني عندما أخبرت أهلي أني مكتئبة وأريد زيارة طبيب نفسي، سمعت جملة: “مكتئبة من إيه؟! إنتي ناقصك إيه؟!”، مما استدعى الادِّخار لزيارة الطبيب، وبعد شهرين استطعت مقابلته. عندما نظر إليَّ للوهلة الأولى سألني كم عمرك، أجبت: 18. قال: ما الذي أتى بك؟ قلت: مكتئبة. قال: يا بنتي إنتي صغيرة، شفتي إيه إنتي في الدنيا عشان تقولي مكتئبة؟ روحي العبي مع صحابك وخدي تمن الكشف”. تركت عيادة الطبيب أجر أذيال الخيبة، فقدت الأمل ودموعي تنهمر، ونقص وزني أكثر.

 

بعدها تعرفت على مجوعات دعم للمدمنين، فقررت حضورها، وإن لم أكن مدمنة، لكن ربما أستطيع التحدث عن اكتئابي بلا لوم. كان هذا الأمر عاملاً مساعدًا، لكنه لم يكن مجديًا، فبدأت أبحث عن مجموعات دعم لمرضى الاكتئاب. وجدتها قليلة جدًا ومكلفة جدًا، فلم أستطع حضورها، وأكملت حياتي يعتلي سمائي الاكتئاب فترات ثم أعود مره أخرى.

 

أتممت دراستي، ووجدت فرصة عمل مناسبة، وتعرفت على زوجي، وأنجبت ابني الأول.. اعتلى سمائي وقتها اكتئاب ما بعد الولادة، وراودتني مرة أخرى الأفكار الانتحارية، وهنا قررت زيارة طبيب مرة أخرى.

 

كانت تجربة مختلفة، فعندما علم أن لديّ أفكارًا انتحارية قرر احتجازي بالمشفى، ولكني رفضت خوفًا على رضيعي الذي لم يكن أكمل شهره الثالث، وأيضًا رفضت فطامه من أجل تناول مضادات الاكتئاب، وهنا قرر الطبيب خوض التجربة معي، وقال لي إن عليَّ مواصلة الجلسات والتأمل، ولكن أهم ما قاله لي “إن أغلب المشاهير كانوا يعانون من الاكتئاب، ولكنهم كانوا يتقبلون اكتئابهم ويحولونه إلى شيء ملموس”، ونصحني أن أبحث عن شغفي.

 

أتذكر أيضًا أول جلسات التأمل، عندما قالت المدربة “لكي نتحرر من أي إحساس أو ألم علينا تقبله”.. من هنا بدأت رحلة التقبل، بدأت أتقبل أني مريضة اكتئاب تعتريني نوبات اكتئاب تسحقني، ولكن أعلم أنها ستمر.

 

بدأت أبحث عن شغفي، حاولت إلى أن وصلت إلى الكتابة، فعندما أكتئب أكتب كل الأفكار السلبية التي تعتريني وكل الأوجاع، لكي تتطهر روحي من آلامها وكي أتقبل اكتئابي.

 

أنا حقًا ممتنة لنوبات الاكتئاب.. ممتنة لكل المعلومات التي عرفتها عن ذلك المرض، وأولها أنه مرض أصلاً.. ممتنة للأطباء والأشخاص الذين قابلتهم في رحلتي مع الاكتئاب.. ممتنة لكل الآلام والدموع التي كوَّنت لديَّ شغف الكتابة.. أنا حقًا ممتنة لاكتئابي.

 

ممتنة لاكتئابي

 

المقالة السابقةاللقاء الثاني
المقالة القادمةأم تحت الإنشاء
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا