بقلم/ آية إبراهيم
ابنتي الحبيبة.. في الوقت الذي تبدين فيه دهشتك من أبسط الأشياء، كنت قد ودعت دهشتي من كل شيء، وباتت روحي مشبعة بالوجود والحياة، فتركت ما فاتني منها على رضا، وأخذت ما أتتني به راضية، لعلمي أنها ناقصة مهما طالت بأطرافها غايات الكمال.. كنت ووالدك أبوين جديدين، كما كنتِ أنتِ أيضًا في عالمنا القديم لنا، الجديد لك، زهرة صغيرة تتفتح في ربيع الحياة.
ربما يومًا ستعرفين عن علم يقين مرامي ومقصدي، حينما تأخذ زهرتك الصغيرة في التفتح وتكونين أنا في زمان آخر. أعذرك على أي حال، فأنا أيضًا شعرت بذلك حينما أصبحتُ أمي، وارتديتها حتى النخاع، لأكون لك أمًا تحت الإنشاء، فنصفي كان أمًا والآخر فتاة تبتلع ريقها بصعوبة، لتدرك تحديدًا ماذا حدث، وتحاول جاهدة أن تلحق بنصف الأم التي أصبحت عليه، لتكون لك محاولة اكتمال تشبع رغبات روحك في الأمان الذي كان في قرارك المكين في رحمي.
نصف الأم هذه تحاول طوال الوقت تأمين وجودك في العالم الجديد، تحاول أن تضمك ضمة تذكرك بالرحم الحبيب، تقربك من دقات قلبها، علك تتذكرين أين سمعت هذه الدقات قبل هذه الساعة، تريد أن تصرخ بك أنك هي هي من حملتك داخلها في أعماقها وحشاها، ثم ها أنت الآن بين يديها جسدًا نابضًا بالحياة، قد خرج توًّا طازجًا من الحنايا والأحشاء، يصرخ مستنكرًا “ماذا حدث؟! وأين أنا؟ وأين مهدي وحياتي الهادئة الجميلة؟ أين اختفت الأصوات الرتيبة من حولي؟ وأين صوت الحكايات الذي كنت أسمعه وأنا أهتز في مهدي الصغير؟ وما كل هذه الأنوار والضجة؟! أين أنا؟ وأين أمي؟!”، أضمك كي تهدئي لتتذكري صوتي ودقات قلبي، الفتاة الصغيرة في داخلي تصرخ معك بصوت ينافس صوتك، وأنا بينكما حائرة القلب والوجود، لكني بلا تفكير أضم جسدك الصغير وأطعمك من روحي وراحتي وحبي، حتى تشبع روحك فاشبع أنا.
كم مرة كنت لا أفهم الكبار حين يتوجعون ويبكون، ثم يطلقون النكات معنا حين يهنؤون، فقط لمجرد ابتسامة أو قهقهة طفولية عفوية، يطرب لها القلب والوجدان. واليوم قد صرت أنا الكبار، أمسح أدمعي في ابتساماتك وضحكاتك الجميلة. ربما لم أكن الأم المثالية، لكن تأكدي بنيتي أني أفرغت جيوب الروح والوجدان في حبك أنت وإخوتك، لأحقق العدل في هذا البيت الصغير، ولتشبع أرواحكم من الحب والسعادة.
حاولت معكم استعادة دهشتي للمسلمات المعتادة، وتعلمت كيف أنبهر من أشياء عادية، لكنها كانت في أعينكم براقة لامعة كما كانت يومًا في عيني، لكنكم لا زلتم تعتقدون أننا ولدنا كبارًا هكذا.. حسنًا سنحل هذه الإشكالية حين تترقون في درجات الحياة لإنسان بدرجة أب وإنسانة بدرجة أم.
علمت منكم أن كل الطعام مفيد ومقبول ومحبوب، وأن البيت المرتب أحيانًا يزعجني، وأن الفوضى في اللعب إبداع، وأن المكسب الحقيقي حقًا سعادة قلوبكم وحبكم لي ولوالدكم.
ابنتي الحبيبة.. يومًا ستذكرين ملامحي عن قرب، وأنت تضمين إلى صدرك رضيعك الصغير والكل نيام، ووحدكما في الليل تنشدان الحب والبكاء والسهد الطويل، وسيقفز عليكما الفجر باسم الثغر كريم المطلع، وستذكرين فقط -يا بنيتي- وجهي وأنا أضمك وأقبلك وأغني لك، حينها ستضمين صغيرك أكثر وتهمسين في أذنه “اذكرني” وتقولين “رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا”.
سامحيني إن قصَّرت يومًا أو لم تروقك طريقتي حينًا، فكلنا حبيبتي ظننا أننا حينما نصبح الآباء والأمهات أننا خارقون وأننا نملك مهارات سحرية غير التي تربينا عليها يومًا، لكن الحقيقة يا بنيتي أنني كنت أمي في كل شيء، إضافة لكياني وقراءتي وثقافتي، ومع الأيام تعلمت أن الأمومة ليست كتابًا تُحفَظ سطوره وتطبقه على كائنك الصغير، بقدر ما هي توفيق من الله وهبة فريدة وتجربة فردية، قد تتشابه أحداثها لكن لا تتطابق الوقائع.
الأمومة إلهام رباني، وذكريات مؤنسة، كلما تقدم العمر، وكل لحظة وجع فيها كأنها محض حلم، لكن يبقى الواقع الأروع والأجمل الذي هو قطعة فرح من السماء. وليست الأمومة فقط قاصرة على الإنجاب، بل هي عاطفة تسكن في قلوب النساء عامة، ولو لم تنجب المرأة أبدًا هي في وجدانها وقلبها روحًا دفاقة بالحب والعطاء والأمان. المرأة مخلوق سخي محب بديع.
كلنا ظننا أننا سنصبح آباء خارقين