شكوت يومًا لإحدى صديقاتي أنني قد امتلأت من مخاوفي حتى كدت أن أفيض على كل من حولي، وأن الحزن قد نال مني للدرجة التي وجدت نفسي لا أعلم تحديدًا ما الذي يحزنني!
وكأن الاكتئاب والقلق قد تمكنا مني كأنني أحد الأسرى، حتى فقدت قدرتي على الشعور بحريتي. فسألت صديقتي معبرة عن وجعي بذلك التشبيه، وسألتها: أسمعتي عن تلك القضبان الحديدية التي تحيط بنا، ولكن لا أثر لها لنحطمها فتبقى موجودة وحاضرة تقيدنا وتمنعنا من أن نرى ما الذي يحيط بها من خارجها، ونبقى سجناء قسوة حبكة مغاليقها؟
هكذا أشعر بالأسْرِ والسجن داخل نفسي بمشاعرها المتألمة. لم أعد أعلم أين يكمن المخرج الذي منه أدخل إلى السلام والحرية والرحب؛ فكل المقاليد عن عيني مختفية وكأني أحاول الهروب من الوهم، ولكن في الحقيقية أنا مسجونة بين قضبان مغلقة بحبكة فائقة لا يمكنني حتى اختراقها.
حينها ردَّت على سؤالي بسؤال آخر وقالت لي: ومن أغلق القضبان بتلك الحبكة؟
لم أفهم حينها ماذا كانت تعني بسؤالها ولكني سريعًا ما أخبرتها وقلت لها: لا يعنيني من أغلق، ولكن كل ما يعنيني أن أجد ذلك المفتاح الذي به يمكنني أن أتحرر، فالإنهاك قد نال مني، صرت أترنح كالسكارى في حزني.
فقالت لي: وماذا لو كان هذا المفتاح الذي تحاولين إيجاده بالفعل ساكن في داخلك، وكل ما تحتاجينه هو فقط أن تستخدمي هذا المفتاح؟!
فسألتها سريعًا: كيف؟
قالت لي: ببساطة يمكنك أن تصفي تلك المغاليق، ولا تستسلمي لشدة حبكتها، منذ متى وأنتِ ساكتة ولا تعبرين عن نَفسك وما يحدث بداخلها؟
قلت لها: منذ سنين، فالأمور أكثر تعقيدًا مما تتخيلين لن يجدي البكاء على الأطلال نفعًا، فما خُرِّب قد خَرب، لن ينفعني أحد ولن ينفعني أيضًا البكاء والتعبير عن الوجع، لن أجد سوى المزيد من الخزي والفضيحة، فما حدث في حياتي لا يمكن لأحد احتماله وتصديقه.
أجابتني صديقتي: الخزي يا رفيقتي لا يحيا إلا داخل القلوب المغلقة التي تخشَى التعري!
في ذلك الحين لم أفهم كلماتها جيدًا؛ وسألتها متهكمة على كلماتها: أي “تعرٍّ” تقصدين؟!
فما بها إلا أنها نظرت إلى عيناي ولمست أكتافي بيديها، وربتت عليهما بكل الحب واللطف، وقالت: تلك الفضيحة التي تخافين من الإفصاح عنها تستمد قوة تأثيرها عليكِ من سكوتك عنها، فإن فضحتي الفضيحة لن تَقوى مرة أخرى بخزي مشاعرها أو مخاوفها على أفكارك وعلى مستقبلك وحياتك.
ضحكتُ ساخرة وقلت لها: لذا سأذهب إلى كل الناس وسأخبرهم بنفسي عن فضيحتي، سأخبرهم بأمور تقشعر لها الأبدان، وعن هؤلاء الناس الذين جرحوني وقاتلوني، وسأعطيهم الفرصة ليقولوا ما لا يجب في سيرتي، وسأعمل على أن يعرف الجميع ما أخشى أن ينطق به وأقول أيضًا ضعفاتي وسقطاتي لأشبع رغبة المتطفلين على حياتي، لأقتل “الخزي” فما هذا الهَذي الذي تتحدثين به؟
حينها قالت لي: أنا لم أقل هذا مطلقًا، ولكن كل ما أحاول أخبارك به هو أن تجدي تلك الدائرة الأمنة التي يمكنك في داخلها أن تحتوي كل ما فيكِ دون أن تخجلي من شيء، لا تذهبي إلى كل الناس؛ ولكن هناك أناسًا يستحقون أن نشاركهم بتلك الضعفات التي في داخلنا، ونحكي معهم بصوت مرتفع عن كل ما يخيفنا، فلا نبقى وحدنا خائفين.
هؤلاء الناس يا صديقتي عندما يرون كل “العري” لن يشمتوا فينا، ولن يتكلموا بالسوء قط على حياتنا، ولكن سيشاركوننا بما قد اجتازوا فيه ونَفعهم، ويسترون عرينا بتقديرهم لنا ولمشوارنا.
في الطريق الذي نحن سائرون فيه كلنا مُعرضين للجروح والسقطات والضعفات، كلنا هنا غرباء نتعلم كيف يمكننا أن نحيا بأقل الخسائر، وما من أحد يسير في الطريق إلا وقد انتقص الطريق منه شيئًا فالندوب هنا أثرها على الجميع.
ولكن أتعلمين يا عزيزتي ما الذي يعزز قدراتنا وقوتنا على أن نكمل المسير؟
فجاوبتها قائلة: لا أعلم! فقدت الشغف ولا أريد أن أكمل الطريق!
فقالت لي: لذا عليكِ أن تعلمي أن لا تسيري بمفردك، وابحثي عن تلك الدائرة الأمنة التي فيها يمكنكِ أن تكتملي، فبرغم كل النواقص التي حدثت أثناء السير، إلا أنه يمكن تعويضها من خلال مشاركة الآخرين واتحاد تجاربهم بتجربتك، ففي تلك الدائرة يمكنك أن تشاركي كل ما تخجلين وتخافين أن تشاركيه بصوت مرتفع مع ذاتك، فتجدين مرآة مناسبة تعكس لكِ الحقيقة كما هي دون زيف.
“أتحاولين إقناعي أن خلاصي من القضبان في مشاركة كواليس حياتي مع الآخرين؟!” هكذا سألت صديقتي.
“لا أحاول إقناعك بهذا.” هكذا جاوبتني.
ومن ثم أكملت حديثها وقالت: ولكن الوحدة في المسير تعطي الفرصة لكثير من الزيف أن يرافقنا، فتتشوه صورتنا عن أنفسنا وقدراتنا وعن الأخرين أيضًا، وتلك الأكاذيب تجد ملاذًا لها لتحيا وتعشش في داخلنا، والأكاذيب لا ترحم أحد يا صديقتي، فهي قادرة على إقناعك بأنها هي الحق والحقيقية وليس سواها يتفهمك.
فالقضبان التي لا تُرى ما هي إلا خدعة يمكنك إيجاد حل لغزها، فالفكرة إذا تواجدت أنبتت شعورًا، والمشاعر إذا اكتملت لن تحيا دون أن تؤثر على أفعالنا، والأفعال إذا تمادت ستحتل كل رغبة في داخنا، وستغلق الدائرة علينا، ولن نجد من يحررنا من تلك القيود الوهمية إلا الإفصاح عن تلك الفكرة الأولية التي كانت سببًا في كل تلك المعاناة. والإفصاح لن يكون مفيدًا وفعالًا إلا إذا اقترن بامتحان صحة الفكرة من عدمها.
ولكي تمتحني الأفكار امتحانًا ذكيًا عليكِ يا صديقتي أن تشاركي أحدًا معكِ، ولا تمتحنيها بمفردك لئلا تخدعك مرة أخرى، وتتسلط عليكِ، وتحتكم إلى مشاعرك كشاهد على حقيقتها، والمشاعر ما هي إلا نتاج تلك الفكرة ووليدتها. فكيف يمكن الاحتكام إلى شاهد يتبعها!
أفصحي يا صديقتي عن كل ما بداخلك، ولا تخشي، فأنتِ شجاعة وكل ما مررتِ به دليل كاف على شجاعتك، لا زلتي هنا على قيد الحياة متماسكة، قوية، محاربة، وتستطيعين أن تغلبي كل ما يحاول أن يضعف من الحياة التي بداخلك.
فلا تخافي، فدائرة الأمان صنعت لكِ وهناك الكثيرون المتاحون لأجلك، ليسيروا معكِ رحلتك، ويساندوكِ في طريقك فلا يَغلبك ضعفك أو خوفك، لكي تتعكزي على من يرافقك، وتنفتحي بكل وجدانك ومشاعرك، وتجدي من يحمل الثقل الذي أحنى ظهرك، فلا تعودي تنهارين بسبب ثقل ما احتملتيه، فقدمي لنَفسك خدمة واطلبي المساعدة لأجلها من هؤلاء الذين هم محل للأمان والثقة، وحينها سيموت الخزي والخوف إلى الأبد، وستتعافين وتستردين كل ما فقدتي من طاقتك.