المسافات المُقدسة

583

بقلم/ إسراء حسني
من كام يوم قرأت مقال بيتكلم عن نظرية التعلق لـ”جون بولبي”، وكان بيقول فيه إن الطفل بيستخدم علاقة الثقة اللي بينه وبين الشخص اللي بيمنحه الحب والرعاية والاهتمام كـ”قاعدة آمنة” عشان يستكشف العالم الخارجي.

بمعنى إن تعلقه بالشخص ده بيمثل التوازن بين حاجته إلى الشعور بالأمان والاطمئنان وحاجته لاكتشاف محيطه، وإن الطفل يستحيل يستكشف مكان جديد غير لما يتأكد إن فيه “قاعدة آمنة” موجودة يقدر يرجعلها لما يحس إنه خايف أو محتاج للحماية.

بدأت ألاحظ الموضوع ده فعلاً مع “غزل” لما بنروح أي مكان جديد بتفضل ماسكة في آلاء لو كانت موجودة، أو تمسك فيّ وترفض تروح لأي حد بسهولة، وشوية.. تنزل من على رجلي وتفضل واقفة جنبي تبصلي، وبعدين تمشي حبة وترجعلي تاني، وكأنها بتطمن بوجودي.

في آخر المقال كان مكتوب توصية إن إحنا نشجع أطفالنا يستكشفوا الدنيا حواليهم بنفسهم، طالما مفيش حاجة هتئذيهم، لأن ده هيخلي خيال الطفل ينطلق وينمو بشكل سليم.

 

المقال كان مستخدم جمل بسمعها كتير فعلاً، بتتقال من الأهالي لأطفالهم، زي “أنا خايف عليك”، “أصل مفيش حاجة هناك”، “خليك هنا واعمل اللي إنت عاوزه”، “هجيبلك اللعب اللي هناك هنا”، وغيرها من الجمل اللي كنت بشوفها عادية، بس اكتشفت إنها بتخلي الطفل يفضّل إنه يفقد رغبته في الاستكشاف، واللي هي جزء منه وشيء ضروري في مرحلة تكوينه، على إنه يفقد الشخص اللي متعلق به، هيفضَّل إنه يفقد حريته وحرية الحركة على إنه يفقد وجود الشخص ده جنبه.

 

المقال كان بيوصف الطفل ده بإنه لما يكبر هيفضل قلقان بزيادة، لأنه عنده عقدة التعلق مش هيعرف امتى يبعد عن اللي بيحبهم، عشان يشوف حياته ويسكتشف دنيته.

 

الطفل ده ممكن لما يوصل لسن أكبر شوية يروح يكتشف الحاجات المحيطة به، بس مهما يروح الطفل ده مش هيبعد، لأنه هيفضل يأنب نفسه “هل أهله هيزعلوا منه؟ هل هيضربوه؟” هيفضل عنده عقدة ذنب، ذنب حب الاسكتشاف الفطري.

 

المسافة بين حب الأطفال للاستكشاف ورغبتهم في وجود “قاعدة آمنة” هي مسافة مقدسة جدًا، متبوظوهاش باسم الحب أو الخوف عليهم، المسافة دي هي اللي هتحميهم في المستقبل، وتعلّمهم إزاي يحبوا وميخسروش نفسهم، المسافة دي هي اللي هتخلي حبهم للدنيا يستمر، لأنهم لسه عايزين يشوفوا ويعرفوا، متقتلوش شغفهم.

 

متخليش أطفالك يكبروا وهمّ دايمًا في مفاوضات، حتى لو مأفصحوش عنها، متخلوهمش يكبروا وهمّ دايمًا بيقدموا تنازلات قدام كل حاجة عايزينها، يتنازلوا عن حريتهم عشان الأمن، ويتنازلوا عن راحتهم عشان الحب، ويتنازلوا عن نجاحهم عشان الناس، خلوهم يروحوا يستكشفوا وهمّ ضامنين إن اللي بيحبوهم معاهم مهما بعدوا، وإنهم هيساعدوهم من غير تأنيب لما يحتاجوهم.. باختصار خلوهم يطلعوا أسوياء.

 

 

 

 

المقالة السابقةاستنى اللمبة النيون
المقالة القادمةرسالة اعتذار إلى موظفة خدمة العملاء
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا