بقلم/ نوران الراضي
الحب وجودي والعقل ورع متقشف. والقلب حائر بين هذا وذاك!
الحب حر لا سلطان عليه، لا مواريث لا قواعد هائج متوهج، نيران تفنيك ذاتيًا، يا حبذا لو اقترنت بالقلق.
والقلق ليس ضيفًا خفيفًا، بل جليسًا ثقيلاً مزمنًا لا يعرف باب الرحيل. يصور لك الفراق وسُبله الكثيرة ويمهدها لك، فتصبح حقيقة بين يديك تراها بأم عينيك. على أنه من الناحية النظرية -غير المرهفة- لا بأس من التخلي والفراق، لكن البأس كل البأس والحنق يرافق ذا الوجه الخشبي الذي لا يصارحك بأن لا قيمة لك في حياته، ويكتفي بالمضي قدمًا مديرًا ظهره.
إننا جُبلنا على الغُلب، نترقب نهاية الملذات والمفرحات. إننا نشعر في أعماقنا أن اللحظة الكاملة المفعمة بالمثالية لا تليق بنا، فنتعجل زوال سعادتنا متشائمين بما يمكن أن يسوء أو يؤول.
التشاؤم كما يقول نيتشه الفيلسوف الألماني: “علامة انحطاط، والتفاؤل سطحية، والأفضل، التفاؤل في المأساة”.
والأفضل من ذلك كله التوكل على الرب والعشم في التدابير.
الحب هجين لا يعرف فن الإتيكيت، فظ، لا يتأدب، ويختار الزمان والمكان والوقت المناسبين. هذا الهراء الإنساني لا يعرفه.
يقتلك بأن يملأ روحك الباردة دفئًا وسكونًا. تدري ما فعل رشفة من القهوة الساخنة بالأسنان بعد تناولك جالونًا من المثلجات؟ هو هذا الوجع المرغوب.
يقول سقراط: “المرأة العظيمة هي التي تُعلمنا كيف نُحب عندما نريد أن نكره، وكيف نضحك عندما نريد أن نبكي، وكيف نبتسم عندما نتألم”.
عجبًا.. يخرج أجمل وأصدق وأرق الكلمات ممن لم يعتِّب صدرهم الحب، وقد يقضون عمرهم بين بحث عنه وهروب منه ولا يجدهم ولا يجدونه. فسقراط نفسه لم يذق الحب، بل المذلة. ولم يكن ليصبح فليسوفًا نتحاكى به لولا عجرفة وبذاءة زوجته، مما دفعه لهجر بيته دفعًا بالمكوث في الفناء يتحلق حوله طلاب الحياة والعلم، يناقشهم في عظيم الأمور وفلسفة الحياة والعشق.. تظنها رَحِمَته؟ أبدًا.. أتت امرأته السليطة من خلفه وراحت تصب ماء الدلو على رأسه أمام الملأ.
لِمَ كل هذا الغل؟! لا أدري. لِمَ لم يذكر أحد ما أغضبها منه إلى هذا الحد الذي فاق الإهانة؟ ما الذي يستدعي أنثى لكسر كبرياء رجلها على مرأى ومسمع أمة لا إله إلا الله؟ هل كانا يخفيان الحب كي لا يُحسدا؟ مثلاً.. ويدعيان العراك كأزواج هذه الأيام ويعلقان خرزة زرقاء؟ هل كان يحب مشاكساتها كما المثل العجيب المحبب لدي: “إذا أحب أحدكم أحدًا فلينكشه من حين لآخر”؟ أتراها كانت تتبع هذا المبدأ في الأربعمائة قبل الميلاد؟
….
إننا ككتاب حَمَّلنا الحب فوق طاقته فغدا بُعبعًا. فإذا دق القلب، دق ناقوس الحذر ومؤشر الخطر.. وضجيج الرعب والهروب وطقوس إخلاء المكان لضمان الأمان.
إن الروايات والأشعار نزهت من ذكر المحبوبة، فصارت من كوكب آخر لا تشبه بنات الأرض شيئًا، فلا يشين وجهها نمش ولا خربوش، معتدلة القوام لا مشتهاة سمينة ولا أخرى. مُعظَّمة، كلهن حنونات في أعينهم خُضرة وعلى أكتافهن الطير.. كلهن جميلات مليحات الوجه حسناوات الطبع.
في فلسفتي الجميلات كالفراشات برَّاقات بعيدات.. إن اقتربت منهن وجدت عيوبهن الشكلية من حيث العدسة السطحية، وتزول عنهن جاذبيتهن السحرية، فلا تجد غير حشرة، عيناها كالمسوخ، ولا يبقى غير حلاوة أرواحهن وحسن معشرهن وما يسببنه من بهجة وطرب للمنشد المراقب في صمت وذهول وانجذاب لألوانهن.
اتبع أثر الفراشة واقترب، إن كانت لك الشجاعة بما يكفي لتتحدى وضوح وتجرد الواقع من زينة ومفاتن الخيال.. فقليلون من يتبدى لهم الجمال في القرب. وهذا من أشد الأمور غرابة. الكل يريد بلوغ الجبال.. المحظوظ من يتسلق سانت كاترين في موجة البرد السنوية في رحلة رخيصة التكاليف ويعود حيًا، لا جثة تتبادل صوره الإعلام محطة محطة. لا أعتقد أن المغامر وهو يقترب منه شبح الموت فرح بقمة إيفرست التي خاطر لأجلها.
إن من يحب هو انتحاري لا محالة. المعضلة ليست في آلام الفراق وهذه الديباجات الجبانة، بل لأن الحب نزال مع المادة والأنانية والمخاوف، وحدهم المتيمون حق العشق يفوزون في هذه الحلبة الصعبة.
وعلى كلٍ أثر الفراشة لا يزول.