يوشك الليل أن ينتهي وأنا أكتب لك تلك السطور، في اليوم الأول من عامك الثالث للغياب، واليوم الأول من عام جديد في حياتي، لا أنتظر فيه سوى صحة ابنتي ومحبتها لي وأنفاسها، لا أنتظر سوى مرحها المعتاد، وبعض كلماتك وأسلوبك وضحكتك التي ورثتها عنك بإخلاص.
أعلم أنك تعلم ما لا أعلمه، لكنني أود أن أطلعك على بعض أخبارنا بطريقتي.. الجميع بخير، و”فريدة” تقترب من اعتياد عالمنا السيِّئ، أجتهد في البحث عن طرق أفضل في النظر إلى ما حولها، لكنها للمرة الأولى تسألني السؤال الوحيد في العالم الذي لا أعرف كيف أجيبه، أين أنت؟ متى تأتي؟
لم أحدثها في أي وقت عن فكرة الموت، ولا أرغب في الحديث عنه، هي فكرة صعبة الإقناع لنا، فكيف إذًا لها وهي التي لم تكمل بعد عامها الرابع؟! أسوأ ما يمكن أن تفعله السماء بي هو أن تضطر أم أن تخبر ابنتها أو ابنها “أبوك الذي في السماء” لم أخبر أحدًا بهذا لأنني تألمت شديد الألم من الموقف برمته واكتفيت بإخبارها “هو في حتة جميلة”.
أفكر في إكمال دراساتي العليا والحصول على دورات للغة الفرنسية، علَّني أتوقف عن التفكير ليلاً فيما يرهق عقلي الباطن والواعي، علَّ وقتي يثمر عن ما يفيد ابنتي أيضًا.. كل شيء على ما يرام، سوى صحتي التي ينهرني الجميع لإهمالها، أفعل ما يجعل قدامي تحملاني فقط، وأخشى أن أجني ثمار هذا الإهمال الأيام القادمة.
أزعم أنني أصبحت أمتلك رؤية جديدة للحياة، من المؤكد أنها مجرد تصور، ومن الضروري أنها ما زالت تحتاج أباريق صغيرة تملأها بالوعي، أنظر إلى الأشياء بنضج امرأة في الستين من عمرها، أو هكذا أعتقد، أجلس على كرسي المُشاهد في الحياة، وأنا غير قلقة من أشياء فاتتني أو قد تفوتني، لا شيء يهم سوى ما أجيد لمسه، لا شيء أهم من ابنتي وصورتي التي سأتركها لها، أو التي قد تكون لها ونسًا وسط قسوة الوهج الدنيوي.
قد يكون هذا الأمان نابعًا من تلك الحفرة العميقة في القلب، أعمل حاليًا على تدريبي على المشاهد الجديدة في واقعي، أطيل السلام على تلك الأشياء التي ذهبت، وهو خطأ أدعو السماء أن تمنحني تركه، أرى نفسي جالسة على كرسي المشاهد لا أعتد بجري الوحوش، أبحث عن غد آمن فقط وحظي من العالم في عيني ابنتي.
لا تبتسم وتحاول التفكير في معنى كلماتي، عليك فقط أن تنظر حين تجلس إلى جواري في غفلة مني تقصدها السماء، وتجيد النظر لي، وستدرك كل شيء. قبل أيام وجدت نفسي أفكر كثيرًا كعادتي، كيف هو عالمك الجديد؟ هل اعتدت عليه وأجدت الحماس لما حولك؟ هل تستمتع بحياتك الجديدة؟ أراك جميلاً في أحلامي، بشوشًا، وجهك كالقمر، تخبرني بتحسن أحوالك، وابتسامتك لا تفارقك فتطمئنني عليك.
كل مشاهدي معك في عالم الغيب تخبرني أنك في درجة سارَّة لدى السماء، أتخيل هذا العالم، من يراك يوميًا؟ من يلقى عليك تحية الصباح؟ كيف تبتسم؟ وما شكل أصدقائك الجدد؟ هل بحثت عني في الوجوه التي تلقاها هناك؟ كنت تحتاج من يُذكِّرك ببعض التفاصيل الخاصة بك، فهل هناك من يفعل ذلك الآن؟ هل لديك مرآة تكتب عليها اسمي كما اعتدنا أن نفعل؟
من المؤكد أن إدراكك مختلف عنا، كما أن عالمك الآن لا يمكن أن يخطر لي على بال، لكنني أعزي نفسي بما أسرده، ولو أن “الكلام أقل من شفاء” كما قالت سوزان عليوان .
حبيبي.. قضيت ذكراك الثانية وسط كل تلك التفاصيل التي تزاحم عقلي يوميًا، كل هذا الصراخ، والنداءات وحالة الحزن التي لا أتذكرها قدر تذكري لانتظاري أن تخرج من المستشفى ونعود إلى منزلنا مجددًا. أتذكر بشكل يشبه “غلوشة” التلفاز كل هذا الجمع من البشر، أتذكر أنني لم أُخرِج كل انفعالاتي خوفًا على ابنتي ووالديك وقتها، أتذكر أنني كان عليَّ الوقوف سريعًا من أجل من حولي، بينما هناك نزيف لا يتوقف.
أجري في طرقات اعتدت أنت السير فيها وأغمض عينيِّ علَّني ألمسك، ألمس روحًا تعلقت بها حد الإدمان، الإدمان الذي يعني الاعتياد، لقد اعتدتك يا حبيبي، اعتدت أن تناديني كما لم ينادِني أحد، وأن تراني، بل تجيد رؤيتي كما لو كنت “صنعتك”، لم يُجِد رؤيتي أحد سواك، اعتدت أن أحدثك كما أحدث نفسي فأسجلك على هاتفي منذ يوم المحبة الأول “أنا”.. أعتدت فقط أن تحبني .
أمتنُّ للسماء كثيرًا لأنها علمت حقيقة المحبة، وإن كنت لا أعلم الحكمة من نهاية القصة، لكنني أؤمن بأنها صدقتنا، السماء آمنت بحبنا فأجادت وضع النهاية رغم الألم، فهذا العالم يا حبيبي لا يناسبنا، علَّها أرادت إخبارنا بذلك على طريقتها الخاصة فاحتفظت بك لديها .
أريد أن أسألك كيف تقضي يوم ذكراك؟ هل تتذكرني؟ هل كنت تسمعني حين كنت أناديك؟ هل رأيت كسرة والدتك؟ هل رأيت أصحابك ومن بكوك بصدق نادر؟ هل يمر اليوم لديك مرور الكرام، أم لا يمنحونكم حق معرفة التواريخ، أم أن أيامك لا تشبه أيامنا؟ أنت الآن تكمل عامك الثاني في عالمك البعيد قرب الغيب، علَّك اعتدت الكثير من الأشياء.
إحدى صديقاتي حاولت أن تجعلني أقضي يوم رحيلك معها في بيتها، ظنًا منها أنني قد أنشغل بتفاصيل أخرى عن التذكر.” الذاكرة -لعلمك- هي العقاب الأسوأ على الإطلاق. ليتني أجدد ميلاد ذاكرتي أو أفقدها تمامًا”. وأخرى حاولت مقابلتي، لكن الله أراد أن يشغلني في أمر آخر، لقد مرضت “فريدة” وأصيبت بنزلة برد أدت لارتفاع في درجة الحرارة لمدة يوم ونصف وظللت إلى جوارها بعد العودة من عيادة الطبيب، ومر اليوم في مرارة ممزوجة بانشغال خاص يستحق الحياة، ووصلتني الرسالة .
لطف الله ورحمته في كل خطوة نخطوها أنا وابنتك، وقلبي يدلني على الحق فاطمئن، حتى وإن وصلتك كثيرًا حالات اليأس التي تنتابني وأشغل بها صديقتي التي هي رزقي الطيب خلال الأشهر الأخيرة “السلمى” تمر تلك الحالات حين أردد أيقونتي “هذا الوقت سوف يمضي” وبعض أوردتي وضحكة ابنتي لي وسؤال “مريم” عني. بالمناسبة والدك الراحل جاءني وطلب مني اعتزال الناس، ولا أعلم مقصده الحقيقي حتى الآن، لكنني أثق في محبته فأخبره أنني سأحاول.