أتذكر فتاة سمراء تربط إيشاربًا على شعرها كيفما اتفق٬ مظهرها دائمًا “مبهدل” رغم ملابسها النظيفة الغالية٬ شعرها من تحت الإيشارب دائمًا غير مرتب٬ ترتدي نظارة قبيحة الشكل ودائمًا متجهمة٬ هذه الفتاة كانت تمتلك طنًا من المشكلات٬ بعضها كانت قابلة للحل والبعض الآخر كان يتطلب مجهودًا كبيرًا لم يبذله أحد.. كانت هذه الفتاة أنا.
كان هناك طرق كثيرة لأتعلم باكرًا كيف أتعامل مع مشكلاتي، بدلاً من الطريق الطويل الذي قطعته دون توجيه وإرشاد، أبسط هذه الطرق -وأهمها في الواقع- هو الأخصائية النفسية التي كان من المفروض أن أجدها في أي مرحلة دراسية٬ لم أجد سوى “ميس هدى” في المرحلة الثانوية٬ والتي لم تكن تفقه أي شيء، وتمضي وقتها في الترتيب للحفل السنوي للمدرسة والقيام بزيارات لدور الأيتام والمسنين.
على أي حال أنا كبرت وتغيرت٬ وعرفت كيف أتعاطى مع مشكلاتي وأحل بعضها وأتكيف مع البعض الآخر٬ تخرجت في كلية الآداب قسم علم النفس٬ (ربما لهذا دلالة ما فهمتها متأخرًا)، واليوم ولأجل كل الفتيات شبيهات المراهقة السمراء٬ أجري اليوم هذا الحوار مع الأستاذة إسراء عبد المنعم الأخصائية النفسية بإحدى المدارس الحكومية.
ماذا تفعل الأخصائية النفسية بالتحديد؟ وما دورها في المدرسة؟
أنا أخصائية نفسية في مدرسة الورديان الإعدادية للبنات٬ في بداية العام الدراسي أطوف على الفصول٬ أعرف نفسي وأتبادل بعض الحوارات القصيرة مع الفتيات٬ أسأل المدرسين عن أبرز الفتيات اللاتي يختلف سلوكهن عن البقية٬ أراقب أوقات الراحة والتجمعات٬ أنتهز أي فرصة للحديث مع الفتيات لأحاول التقرب منهن٬ وشيئًا فشيئًا تجري الأمور بيننا.
تعرفي على: قصة فيلم الفيل الأزرق 2 في نظر الطب النفسي
كيف تثق فيكِ الفتيات؟
أول الأشياء أن أحفظ اسم الفتاة٬ أحدثها باسمها مباشرة فتعرف أنني أعرفها وأهتم بها بشكل شخصي٬ ثم أتبادل معها المزاح٬ وأسعى أنا للتقرب منها٬ وأعدها أنني لن أفشي سرها إذا بدأت معي الجلسات وأنفذ وعدي٬ ومع مرور السنوات تسبقني سمعتي ويعرفون أني أفي بالعهود.
هل يبُحن بأسرارهن بسهولة؟
بالطبع لا٬ في البداية يكون الأمر أشبه بقطع البازل الصعبة٬ يجب أن تنتبهي لكل كلمة تقال وتحاولي تركيب القطع جوار بعضها بعض، حتى تحصلين على فكرة واضحة٬ ثم تتأكدين منها بالكثير من التقنيات المعقدة.
متى تصبحين دائرة آمنة للحكي بالنسبة للفتيات؟
عندما يجربنني٬ ليس من الجلسة الأولى ولا الثانية٬ بكثير من العسر يتأكدن أنني لا أنصح ولا أوبخ ولا أفشي الأسرار٬ تدريجيًا أصبح قبلتهن الآمنة ويطمئنن لي ويبدأن البوح.
إلى أي مدى يكون الحكي صادمًا؟ هل يحكين كل شيء؟
عندما تطمئن الفتيات يحكين كل ما يثقلهن٬ هن بحاجة للحكي وبحاجة لأن يحمل أحد معهن العبء٬ كلهن يحكين عاجلاً أو آجلاً، يحكين كل شيء بدءًا من قصص الحب الشابة الخجولة٬ وصولاً للمُركَّبات الأوديبية.
المركبات الأوديبية؟! حقًا؟! هل يصل الحكي لهذا العمق؟!
نعم٬ قابلت فتيات لديهن مشاعر حب تجاه آبائهن ومشاعر كراهية وندية تجاه أمهاتهن (مركب إلكترا وهو المقابل لعقدة أوديب لدى الولد، وهو أن يحب أمه ويكره أباه) تصل في بعض الأحيان لمحاولات هدم البيت للتفريق بين الأبوين.
هل هناك مشكلات أخرى بهذه الصعوبة قابلتك مع الفتيات؟
نعم٬ هناك مشكلات اضطرابات الهوية الجنسية، ومحاولات التحرش بين الفتيات وبعضهن، هناك أيضًا مشكلات السرقة المرضية، وغيرها من المشكلات النفسية التي تصيب الفتيات في عمر مبكر.
هل الحكي وحده يكفي؟
بالطبع لا٬ ليس في كل الحالات٬ هناك حالات تتطلب تدخلاً طبيًا وعلاجيًا متخصصًا، الحكي بالنسبة لبعض الحالات وسيلة للتعرف على المشكلة، أما حلها فيتطلب طبيبًا نفسيًا خارج أسوار المدرسة، أنصح أحيانًا بطلب استشارات نفسية خارج إطار المدرسة٬ وفي الغالب لا يأخذ الأهل كلامي بجدية.
لماذا؟!
بسبب الوصم٬ هناك نوعان من الآباء٬ من ينكرون الأمر برمته ويصفون بناتهم بالدلع ولا يصدقون كلماتي٬ وهناك من يحاولون معي حل المشكلة دون تدخل طبي حتى لا يتعرض أبناؤهم للوصم٬ وأنا لست ساحرة٬ لا أستطيع علاج الفتيات وحدي٬ وإلى الآن لم أقابل النوع الثالث من الآباء الذين يعرضون أبناءهم على طبيب نفسي بناء على توصياتي.
هل يتعرض عملك أيضًا للوصم؟
نعم٬ معظم المدرسين يرون ما أفعله مع الفتيات تدليلاً وإفسادًا٬ لا يعترفون بالجلسات النفسية ولا بأهمية الحكي في مساعدة الفتيات نفسيًا.
هل تحاولين تدريب الآباء -على الأقل- أن يكونوا دوائر آمنة لأبنائهم؟
أحاول٬ وبصراحة شديدة أفشل كثيرًا٬ الآباء يخافون من الاعتراف بالمشكلة ويخدعون أنفسهم دائمًا ويرفضون أي محاولة لتدريبهم، ويعتبرون دوائر الأمان وحاجة أبنائهم للحكي استهبالاً ودلع بنات.
لماذا يفعلون ذلك في وجهة نظرك؟
ببساطة لأنهم يعتبرون أن حاجة أبنائهم للمساعدة هو فشل لهم، وهم لا يريدون أن يعترفوا بفشلهم، فيفضلون إنكار الأمر تمامًا.
بماذا تنصحين الآباء والأمهات؟
أنصحهم ألا يثقوا بما تراه أعينهم من الخارج٬ وأن يسمحوا لأنفسهم أن ينظروا أعمق من التصرفات العادية اليومية لأبنائهم٬ وأن يتحدثوا كثيرًا معهم٬ الحديث المتواصل سوف يجعلهم يضعون أيديهم على مواطن المشكلات٬ وأول خطوات الحل هو أن نعرف أصلاً أن هناك مشكلة.