الكاتبات والوحدة5: في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات ج1

2476

لمدة عامين، عشت في مدينة إنتشون الكورية الجنوبية، التي تقع على ساحل البحر الأصفر، وهي ثاني أكبر ميناء بحري في كوريا، عندما تمشي في شوارعها، سترى الجبال العالية التي تحيط بها من عدة جهات، وستشعر بصغر شديد، ضآلة تسببها ناطحات السحاب المحيطة بك، خصوصًا عندما تنتقل إليها فجأة من مدينة صغيرة في دلتا مصر، يبلغ أطول ارتفاع لبناياتها 13 طابقًا.

في مثل هذه المدن لا يمكنك إلا أن تشعر بالوحدة، اختلاف اللغة والمساحات الفارغة الشاسعة من حولك، يصنعان للصمت صوتًا، وكأنه طنين ثقيل يضغط على أذنيك. من الغريب أنني كلما فكرت في إنتشون، أراني جالسة على مقعد خشبي في حديقة خضراء، أرتدي معطفًا ثقيلاً وغطاء رأس، من خلف ظهري يقف الجبل شامخًا، ثم لا شيء، لا بشر يمرون، ولا كائنات حية تتنفس، وكأنني عشت وحيدة في مدينة يبلغ عدد سكانها ما يقارب اثني مليون نسمة. ذات يوم عدت من تلك الجلسات إلى الشقة الصغيرة، فتحت ملف وورد وكتبت، “ناطحات السحاب تحيط بي من جميع الجهات، فلا أرى السماء سوى من فتحة ضيقة فوق رأسي. ناطحات السحاب متلاصقة بشكل مريب، من منظوري -منظور النملة- أراها مائلة للأمام، تحيط بي في دائرة مكتملة، تنظر إليَّ باحتقار، فأشعر بالتضاؤل، أضع يدي في جيوبي وأكمل السير”.

كانت هذه هي أول جملة أخطها في رواية “الجدار“، وكنت مصابة باكتئاب ما بعد الولادة، جعلني غير قادرة على التواصل أو الاستيعاب، وقتها كان العالم أكثر رعبًا من أيّ وقت، الحوادث تحدث في كل مكان، مظاهرات وثورات وصور لموتى ولاجئين وغارقين وأشباح بشر يطالعونني كلما فتحت فيسبوك. تحول مخي إلى جهاز يرصد هذه الوجوه وهذه الحوادث، يحفظ أسماءهم وأعمارهم ويسجل نظرة أعينهم وميل رؤوسهم وتشبث أيديهم في الأرض، في الكراسي، في قضبان السكك الحديدية، في العوامات في البحر، في الفراغ.

عنايات الزيات التي كان يمكن أن أكونها

كانت الكتابة وسيلتي للتعافي، شعرت بعد الانتهاء من هذه الرواية أنني قادرة على التنفس واستكمال الحياة، لكن بعد مرور 5 سنوات على ذلك، أجدني أشعر بالشك من المسار الذي أخذته، وأتساءل عن حالي لو كنت قررت أخذ مسار آخر، هل كنت سأظل هنا؟ هل كنت سأجلس اليوم أمام اللاب توب أفكر في طريقة للبدء في هذا المقال، والحديث عن امرأة أخرى عاندها الحظ فلم تتمكن من التعافي بعد انتهائها من روايتها الأولى، فانتحرت وهي دون الثلاثين؟

كانت صورة عنايات الزيات هي أول ما صادفني منذ أسابيع على فيسبوك، صورة أبيض وأسود، ذكرتني بصورة أحتفظ بها لجدتي في محفظتي، بنفس زاوية التصوير وميلة الرأس، نفس تسريحة الشعر العالية والعينين المكحلتين. لكن النظرة بالتأكيد كانت مختلفة، فبينما تسكن عينَي جدتي نظرة هادئة مطمئنة، سكنت عينَي عنايات الزيات نظرة متسائلة، حزينة أو حائرة، لم أتمكن من التخمين، كانت عيناها تتضخمان أمام عيني حتى ملأت الصورة كلها، شعرت بأنها تمتصني وتمتص طاقتي، وأصابتني قشعريرة.

شعرت برغبة تتملكني في قراءة الرواية، رغبة تحولت لشعور أشبه بالخوف عند قراءتي لأول فقرة وإحساسي الغريب أن هذه الفتاة التي تكتب ربما تكون أنا، ربما كانت بالفعل أنا في حياة سابقة، لم يحالفنا الحظ حينها، فعدت للتجربة من جديد.

وقفت وراء زجاج نافذتي أرقب الطريق، الشارع خالٍ وموحش، ونوافذ البيوت مظلة ميتة، لا حياة، لا حركة، الزمن توقف، والدقيقة أصبحت ساعات مملة.

حدث التماهي بين هذه الكاتبة التي انتحرت عام 1963 بعد ابتلاعها جرعة كبيرة من الحبوب المنومة، والفتاة التي كنتها ذات يوم وأنا جالسة وحدي على مقعد خشبي بين ناطحات السحاب، أتساءل: “ما الذي أتي بي إلى هنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وكيف يمكن لي أن أعود؟!”.

إيمان مرسال التي تعرفني

في نفس الفترة، كنت أعاني من هواجس قاسية، كنت أفكر في طرق إيذاء نفسي، وربما في أفكار أخرى مرعبة تتعلق بطفلتي. الأسوأ هو شعوري الكبير بالذنب تجاه هذا الكائن الذي لا يكف عن البكاء، ثم شعوري بالذنب لأنني أشعر بالذنب، كنت وحيدة وصغيرة في مدينة لا أعرف لغتها، أطباؤها لا يمنحونني دواءً بسهولة، شاحبة، حزينة، أعيد اكتشاف حياتي وأندم على العديد من القرارات.

بعد ذلك بأربع سنوات، عندما عدت إلى مصر أمسك بيد طفلتي وباليد الأخرى وثيقة طلاقي، اكتشفت أنني لم أكن مخبولة ولا مجرمة، اكتشفت أنني لم أكن الوحيدة التي تعاني من كل هذا. بكيت وأنا أقرأ الأبيات التي افتتحت بها إيمان مرسال كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”، للشاعرة البولندية آنا سوير. وشعرت أن هذه السيدة تعرفني جيدًا.

أقول: أنتِ لن تهزميني

لن أكون بيضةً لتشرخيها

في هرولتكِ نحو العالم.

جسر مشاة تعبرينه

في الطريق إلى حياتِك

أنا سأدافع عن نفسي.

قررت إيمان مرسال أن تتحدث علنًا عن الشيء الوحيد الذي تخاف كل أم من التعبير عنه، شعورها بأنها كانت أخف قبل أن تتحول إلى أم، مطلوب منها فقط التضحية من أجل صغيرها الذي تحبه، لكن الطبيعة البشرية التي لا يمكننا مقاومتها، تضع الأفكار في رأسها، أفكار لا يمكن التخلص منها بالنقاش أو الصراخ أو الاعتراض، أفكار خبيثة تولد وتكبر في الظلام. يسألها طفلها إن تعارك التمساح مع سمكة القرش من سينتصر؟ لا تعرف الإجابة فيجيب هو: الديناصور طبعًا.

إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور طبعًا، إنه الذنب.

عندما قرأت الكتاب اشتريت ديناصورًا أخضر اللون من محل الألعاب، وجلست أراقب طفلتي تلهو به، كان يبدو أليفًا ومضحكًا بين يديها، تمنيت لو تمكنت من تحويل شعوري بالذنب إلى فكرة مبهجة، لو تمكنت من تحويل الديناصور الذي ينهش في إلى ديناصور مطاطي أحمله بيد واحدة.

في أثر عنايات الزيات

عندما رأيت الإعلان عن كتاب إيمان مرسال الجديد “في أثر عنايات الزيات” منذ أكثر من عام، لم يفارق عقلي، اسم عنايات الزيات صار مألوفًا على أذني. لم يصدر الكتاب لشهور لكني لم أنسه. قررت قراءة رواية “الحب والصمت” لأكون مستعدة عند صدوره.

سرقتني السطور، وغصت في الحكاية، حكاية نجلاء الفتاة الأرستقراطية التي يموت شقيقها فتشعر بالتخبط، كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها جثة باردة، شعرت بالفزع من انتهاء الحياة بهذا الشكل، كان أخوها جسدًا نابضًا قويًا، وفجأة تحول إلى دمية ساكنة، لأنه فقط سقط على رأسه في النادي. خافت نجلاء من الموت ولم تفهم ماهيته، وبدت لها الحياة فارغة من المعنى، شعرت بوحدة لا يكسرها سوى أشياء جامدة تؤنسها في غرفتها، وعندما وقعت في الحب، أحبت شخصًا غريبًا متناقضًا، يحب الحياة على عكسها، يحتقر الموت لكنه ينتظره.

تبدو الرواية عند القراءة المتعجلة وكأنها رواية رومانسية، لكن الرواية كانت تخفي الكثير من ملامح عنايات الزيات التي لا نعرف عنها شيئًا، كنت أفكر في المشاعر المختلفة التي تظهر كلمحات بين السطور، أبحث عن أي لفظ يمكن أن يدلني عن سبب انتحارها، بحثت على شبكة الإنترنت، قرأت كل الكتب التي ورد فيها اسم عنايات، ولم أجد شيئًا.

“في يوم 20 يناير من عام 1963، ابتلعت عنايات الزيات علبة حبوب منومة كاملة معلنة احتجاجها على العالم بالانتحار، لم يكن معروفًا عنها وقت انتحارها قبل أن تبلغ الثلاثين، سوى أنها الصديقة الحميمة للفنانة نادية لطفي، وأنها تكتب القصة القصيرة، ونشرت بعض المحاولات. لم يكن انتحارها يهم أحدًا وقتها، ولم يسأل أحد عن الأسباب”.

هكذا كُتِب في النُبذة القصيرة عن الكاتبة عند إعادة نشر الرواية: “لم يكن انتحارها يهم أحدًا، ولم يسأل أحد عن الأسباب”. واليوم بعد مرور أكثر من خمسين عامًا، يأتي اسم عنايات مصاحبًا لجملة: الكاتبة التي انتحرت بعد رفض نشر روايتها، فهل كان الأمر حقًا هو مجرد خيبة أمل في رواية؟

هل كانت عنايات بالفعل في الزمن الخطأ؟

لو أستطيع أن ألغي وجودي، وأوجد في مكان آخر وزمان آخر، زمان آخر، نعم زمان آخر، ربما أنا في الزمن الخطأ.

شعرت بأن غربة عنايات عن نفسها لم تكن بسبب الكتابة، بل كانت هي الدافع للكتابة، وبالنسبة للوحيدين، يظل الفعل الناتج أقل تأثيرًا من السبب، يبدو أن الوحدة دائمًا ترتبط بالناس، من الغريب أن أبشع أنواعها هو الوحدة التي تتجسد عندما تكون محاطًا بالبشر، ومثل أيّ شيء سرطاني خبيث، لا يمكنك أن تراها بعينك المجردة، الوحدة مجرد صفة، لا يمكن أن تقف وسط جمع لتقول أنا أشعر بالوحدة، لكنك تشعر بهذا الألم يشق صدرك في كل لحظة.

يقول روبرت فايس إن الوحدة مرض مزمن ليس له أيّ ميزة، لكني أشعر بأن الوحدة لا بد أن تُنتِج شيئًا، ربما جملة أو فكرة أو تعبيرًا، ربما حتى حركة اعتراض قد تنتهي بالانتحار.

في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات

لعدة أيام كنت أفكر فيها بشكل مستمر، كنت أحاول تقمص مشاعرها في مساء يوم 3 يناير من عام 1963، وشعرت بخفقان الحزن في قلبي. تبنت عنايات في روايتها الكثير من القضايا، لكن الأجزاء الأهم كانت تلك التي تبحث عن معنى الحرية، كانت تحلم بأن تتمكن من التوقف عن الاختفاء.

في بداية الرواية تقول على لسان البطلة إنها تحب ارتداء الألوان الباهتة حتى تختفي عن النظر، لكن مع وقوعها في الحب، والبدء في رحلة اكتشاف نفسها، اختارت الألوان القوية، شعرت بأنها لا تريد أن تكون خفيّة بعد اليوم. يبدو أن هذه الرواية كانت طريقتها لتصيح “أنا هنا”، وعندما لم يتلفت أحد، قررت أن تتلاشى تمامًا.

عندما قررتُ البدء في كتابة سلسلة مقالات “الكاتبات والوحدة” كانت عنايات الزيات هي السبب، شعرت بأنني أرغب في فهمها أكثر من ذلك، لم أجد مصدرًا، ولا أيّ معلومات كافية لمعرفة تفاصيل عن حياتها، ولم يكن كتاب إيمان مرسال قد صدر بعد، قررت الكتابة عنها كمحاولة للاستبصار، محاولة فهم هذه المرأة التي كان يمكن أن تكون أنا، وقبل النشر بأيام، صدر كتاب “في أثر عنايات الزيات”.

أجَّلت النشر لحين القراءة، كنت متأكدة أن إيمان مرسال ستنقذني كما فعلت من قبل. سافرت من مدينتي خصوصًا لشراء الكتاب فور وصوله إلى المكتبة، لم أتمكن من الانتظار، جلست في مقهى والتهمت أول 50 صفحة، غصت فيه، سيطرت مشاعري عليّ، يمكن أن أقول بأنها لغت تفكيري، عندما نهضت لأحاسب، رحلت ونسيته خلفي على المائدة.

لمدة ساعتين، هما الوقت الذي تستغرقه المسافة بين القاهرة ومدينتي، كنت أفكر في المرأتين، ارتبطت بهما من أول صفحة، لم أشعر أني أفتقد ثقل شنطة الكتب في يدي، كان هناك ثقل مختلف في قلبي يمنعني من الإدراك، لم ألحظ اختفاء الكتاب إلا بعد الوصول، ولم أتمكن من السفر مرة أخرى لاستعادته إلا بعد أيام طويلة.

شعرت بجزء ضئيل من مشاعر إيمان مرسال وهي تبحث عن أثر، تسير في شوارع طويلة بحثًا عن قبر عنايات، تهاتف صديقتها “نادية لطفي” لساعات أملاً في معلومة، تنتظر طويلاً جدًا، مثلما كان حتميًا عليّ أن أنتظر أنا أيضًا لإكمال الصورة.

نهاية الجزء الأول
اقرأ أيضًا: ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد
المقالة السابقةبالأسعار: 15 هدية تناسب صاحبتك لو جابت عربية جديدة
المقالة القادمةدومًا يمكننا البدء من جديد
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا