نتنفس بالكتابة

718

أضيء شمعة، أتأكد من مقدار البخور في مبخرتي المزينة ببعض الزمرد، أحكم المقدار بحيث لا يكون زائدًا عن الحد ويعتم أفكاري، ولا قليلاً فيشتت تفكيري بين وجوده من عدمه. أحب فنجاني الأسود، طرفه الذي أمسكه مسحوب لأعلى فوق مستوى الفنجان يرسم قوس قزح غير مكتمل، كأنه يجري خلف حريته التي هي خارج الفنجان. فنجاني يعشق القهوة العربية بكل تفاصيلها، من اخضرار لونها إلى رائحة الحبهان والقرنفل، وصولاً إلى اسمها وما تبديه في النفس من كونها عربية أصيلة كعربيتي ونشأتي.

بعد أن أهيئ المكان، أتأكد أني مؤهلة تمامًا لاستقبال أي نتيجة سأخرج بها، أختار ثوبي بعناية، وأتزين بالحُليِّ، أمشط شعري وأسدل خصلاته على وجهي لأستتر خلفه، تحسُّبًا من دموع قد تترقرق فجأة وعلى عجالة، أضع قليلاً من مساحيق التجميل ولا أفرط، وكثيرًا ما أكتفي بالكحل، أحب فكرة أن يختلط بدموعي ويتسبب في رسم خطوط غير مفهومة غير مستوية، خطوط غامضة تشبهني كثيرًا حين تعلن عن غضبها ولا تُصرِّح بالشيء الذي أغضبها.

بعد أن تهيأت نفسيًا وهيأت المكان، أجلس ومفكرتي وقلمي في جلسة مغلقة، اعتدنا فيها على السرية التامة، وحسن الإصغاء وعدم المقاطعة، واعتدنا أيضًا على تقبل بعضنا بعض مهما كان الكلام. الواقع أني أستغيث فيحررني قلمي وتقبلني مفكرتي على عِلاَّتي. أنا أستطيع أن أصارع الحياة وأتغلب على الموت وأفسر أحداثًا وأحلل شخصيات كثيرة قابلتها أو لم أقابلها بين كلماتي.

أذكر عندما سألني البعض هل تذكرين أباكِ؟ نعم.. مات أبي وأنا ابنة ستة أعوام، ولكني حفظت مذكراته وحللت خطه في بداية الصفحة الأولى التي كان فيها سعيدًا كطفل لا يريد أن يفوت لحظة من عمره بلا حب وبلا فرح، خطه الواثق وكلماته التي نطقت بذلك كلمتني وحكت لي عن أبي، حين وصلت للصفحة الأخيرة كنت قد عانيت بكل الأوجاع التي كان يعانيها أبي، خطه المرتعش في أيامه الأخيرة وهو يصارع السرطان محفور بسن سكين على جسدي. رعبه على خمسة أطفال صغار وحبيبته التي ستتشح بالسواد حبل حول رقبتي.

أضع المذكرات جانبًا وأتأمل ألبوم الصور، ملامحه الواثقة أبرزت جانبًا من شخصيته أعرفه، حكاه لي كل من عرفه، وملامحه على فراش الموت حكتها لي كلماته في مذكراته. لذا أنا أعشق الكتابه بكل تفاصيلها.. فيا أيها السائلون “لماذا نكتب؟”، نحن نكتب لأن مكنونات أنفسنا تخوض معركة الصمود.

نكتب لأن كلماتنا الدفينة أتعبتنا وأرهقتنا حد الموت، ظلت تنبش في أحشائنا كمن بُعِث بعد ميتة ويريد أن يخبرنا الحقيقة التي نجهلها. نحن نكتب لأن هناك من خذلنا ولم نستطع الإخبار عنه، فكتبنا عن الخذلان وانكسار الروح، ولم نكتب عن الخاذل. ولأن هناك من انتصرنا عليهم فكتبنا عن لذة الانتصار، ولم نكتب عن المهزومين احترامًا منا وتواضعًا.

ومن سرق منا الحياة، اكتشفنا بين أحرفنا أن الحياة يمكن أن تقبض وتعود إلى أجسادنا أكثر من مرة في هذا العالم الغريب، لكنها تعود ناقصة أو مشوهة، فكتبنا لنخبركم كم مرة متنا ونحن بينكم، ولم يشعر بنا أحد. كتبنا لأن هناك من أحبنا بصدق وأحببناه، لكن العالم القبيح أحال بيننا عمدًا.

نحن نكتب لأن كلمات من سبقونا كانت عونًا لنا، فلربما تكون كلماتنا عونًا للاحقينا. نكتب كي يتذكرنا أحدهم مُترحِّمًا أو ربما لاعنًا، ولكن يكفينا الذكرى. وكثيرًا ما نكتب لأن من حولنا لا يحسنون الإصغاء، ونعاني معهم كي يفهموا أن أوجاعنا لا تذبل أو تموت بالعظات. ولأن أيضًا أصواتهم العالية لم تبقِ أثرًا لزفراتنا المتهدجة الخافتة.

نحن نكتب لأننا أهدأ من أن نثير صخبًا بالعويل والصراخ. فإذا مررتم على كلماتنا، ربما تذكرون يومًا أننا كنا هنا، نريد أن نخبركم ونحبكم ونوجعكم ونفكر معكم بصوت عالٍ، لكنكم لم تسمحوا لنا بذلك. فآثرنا الصمت والكتابة. أيها السائلون.. نحن نضحك ونبكي، نفرح ونحزن، نخوض ونستسلم، نفكر ونسكن، نموت ونحيا بين أحرف كلماتنا.

فإن كنتم تجهلوننا.. فها نحن هنا نقبع بين الكلمات والسطور. اقرؤونا أو تجاهلونا إن شئتم، لكن لا تجرحوا كلماتنا، فهي متنفسنا الوحيد. تنتهي كلماتي، أطفئ شمعة، وأخمد البخور، أغسل فنجاني، وأخلع ثوبي، أغسل وجهي.. وأعود للواقع. أي واقع؟ لا أدري! فأيًّا ما كان منهما هو الواقع؟ لا يهم. فأنا أعود من هناك إلى هنا، وأرتحل من هنا إلى هناك طوال الوقت. المهم أنهما عالمان مختلفان متوازيان، يخفف كل منهما من حدة الآخر، وأنا أحياهما معًا.

المقالة السابقةمترميش الباقي
المقالة القادمةيا روايح الزمن الجميل

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا