بدأت ذاكرتي مع أوبريتات صفاء أبو السعود وعمو فؤاد، وتكونت ذكرياتي على شواطئ الإسكندرية قبل دخولها بتذكرة، أحببنا ونسينا مع صوت عمرو دياب، وعشنا الأمل بصوت طارق نور وألبوم الشمعدان. اختبرنا الفقد مع جادون الكوكاكولا التائه، واشترينا الشيبسي بـ25 قرشًا، ثم عاصرنا حدث كوكاكولا صاروخ يوم وصلت لجنيه.
أظنني محظوظة لأنني من جيل اختبر أمورًا لم يحتملها من بعده، ولم يفهمها من قبله، حيث نضجنا مع أصوات رصاص الثورة وأحيينا من جديد أغاني الشيخ إمام، وما زلنا نعافر. استلهمنا الخبرات من كلمات أغنية أو من جملة عابرة في حوار فيلم أو من نص مدرسي.
فمثلاً من الأعمال الفنية أو الكلمات الملهمة في حياتي:
جدو عبده
عشت طفولتي مع جدو عبده و”الشمس البرتقاني عليها ليّ سِنَّة”، لكن أكثر ما علق بذاكرتي من هذا الألبوم هو أغنية “إش إش إش، انهارده مَنْجَى. ولو امْبارح مِشَّ؛ بُكرة هيبقى مانجة.. سيبك م اللي يوِشّ، واسمع للي كمانجة”.
أغنيةٌ شكّلتْ جزءًا من وعيي، سمعتها حتى حفظتها، في المصيف وفي إجازة نصف العام وفي الأعياد، أغنية نادرة بصوت الفنان الراحل جدو عبده الذي لم أعرف له اسمًا غير هذا، تُغنّى في الأصل لأعياد الميلاد، يمكنني القول بأني تربيت عليها.
“النهارده منجى” مما كان قد يحدث، منجى من ألم الماضي، منجى بإشراقة جديدة تنتظر أحلامنا وخططنا التي لم تمت في الأمس، وكانت صدمتي لِما وجدت علبة الألبوم في الكراكيب القديمة مكتوبًا عليها كلمات الأغنية، حيث عرفت أن “النهارده لانجة” وليس “منجى”. ومع عدم فهمي للكلمة عقلي الباطن رفض البحث عن معناها، ورفض الاعتراف بها، وما زلت أغنيها “النهارده منجى” وأشعره منجى.
وأهو بكرة نقول كانت ذكرى تريلام تريلام
مطرب جيلنا وحليم الثمانينيات عمرو دياب، حين فاجئنا بألبوم مختلف وجديد “علِّم قلبي”، والأغاني التي أثارت شجون مدرستي الثانوية “تِمَّن” وكأن هناك حالة خيانة جماعية وعملية فقد وخذلان مدبرة ضد بنات الجيل، وبكاء على تجارب لم نختبرها قط سوى في خيالنا، فرددنا في الرحلات المدرسية وحصص الألعاب وفي لحظاتنا المختلسة في حمام المدرسة، “وأهو بكرة نقول كانت ذكرى وعشنالنا يومين”، وتساءلنا بدهشة سؤال بلا إجابة “قالي الوداع طب أقوله إيه؟! هو الوداع يتقال فيه إيه؟!”، وما زلت أذكر محاولات تقليد طبقة صوت عمرو بنشاز وتأثُّر مُضحكَين، كانا مبكيين حينها.
بكينا كثيرًا، لكننا كبرنا وعرفنا أن الوداع لا يُقال فيه شيء، وأن الخذلان وحتى أكبر الإخفاقات ستصبح ذكرى “وعشنالنا يومين”.
تهاني موجودة
فيلم ودع به جيلي سن المُراهقة “شقة مصر الجديدة”.
حيث أكد لنا أن كل الصراعات الداخلية بين الحلم والواقع، وكل ألم وانتظار وفراغ اجتررناه وحيدين، وكل حضن انتظرناه ولم يأتِ فانتظرنا عذرًا، وكل وعد أُهدِر فصدقنا غيره، وكل أمل انطفأ فنبشنا أثره، كل ذلك كان يستحق، فـ”تهاني موجودة”.
“أبلة تهاني” رمز الحب التي نبحث عنها بشغف طوال الفيلم، ونتوهم حينًا أنها ماتت وحينًا أنها يئست وتوقفت عن دروس الحب، لترسل في نهاية الفيلم خطابًا يفرح به حبيبها السابق بصرخة انتصار وإصرار بأن “تهاااني موجووودة”. لنكمل بعدها رحلتنا المجهولة في البحث عن الحب ونردد مع كل تلويح لليأس “تهاني موجودة”.
عوم واتمختر مختر مختر
ثم في محاولة لبعث الروح في طفولتنا من جديد، حيث لم نجد في شبابنا أعمالاً فنية توازي خبراتنا وما كبرنا عليه، فلاقتنا ديزني بدبلجة مرحة في فترة ذهبية لن تتكرر، مع “شركة المرعبين المحدودة” و”Up” و”خلطبيطة بالصلصة”، لكن تظل بطلة طفولتنا المتأخرة تلك هي “دوري”، التي لمعت بصوت الفنانة عبلة كامل وهي تعلم “مِرهف” أن يواجه مخاوف الظلام وضياع الدليل وفقدان الأمل بنصيحة بسيطة:
“لما الحياة تكشرلك تعمل إيه؟ عوم واتمختر عوم واتمختر.. مختر مختر.. عوم عوم عوم.. عوم عوم عوم.. عوووم واتمختاااار”.. هكذا بتلك البساطة.
سيفتح الله بابًا
أتذكر عندما بدأتُ رحلة القراءة، بدأتُ رحلتي بقراءة الشعر وكتابته، ولما لم أجدني فيه حيث لم يعلق في روحي شيء منه، ووجدتني بعدها في التدوين والقصص والحواديت، لكني لم أنسَ بيتًا استوقفني في نص مدرسي في قصيدة للإمام الشافعي، كان أساس تجربتي في الكتابة، حتى أني أحلم بترديده، ثم رسمته على الحائط في بيتي لأتخلص من زنِّه في رأسي، وأراه أمام عيني لأسير تجاهه حين اليأس.. “سيفتح الله بابًا كنت تحسبه -من شدة اليأس- لم يُخلق بمفتاح”.
كل هذه وغيرها أمور إن كانت قد مرت على البعض مرور الكرام، فإنها حفرت في أرواح الكثيرين، لتبقى في عقولنا نستحضرها وقت الشجن والألم والخوف، وقت الفقد واليأس، وقت الحاجة، كـ”سكر برة” نذيبه في تجاربنا المُرَّة فيلهمنا طرق المواجهة، نضبطه بحنكة وخبرة قهوجي بارع.. ونرتشف بهدوء.