نحن في أعين الآخرين

706

أُبْصِرُ صورتَنا الأولى على صخرةٍ

تلك اللقطة المفقودة من ألبوم البدايات

من منا لم يحب بدايات العلاقات؟ على الأغلب لا أحد، جميعنا نحب البدايات، ليس فقط لأنها تأتي مزدهرة بأمنياتنا شبه المستحيلة المصحوبة بتوقعاتنا الساذجة، أن المستحيل الذي عجز أمامه الآخرون لن يلبث أن نُطَوِّعه نحن وننتصر عليه، وأن علاقتنا مع الآخر هي الأثمن والأسمى.

وإنما لأن البدايات هي الفترة التي حين ننظر خلالها في أعين مَن نحب، سنرى أنفسنا رُبما أفضل مما نحن عليه حقًا، وما من شيء أكثر أهمية من أن نكون الأجمل والأغلى لدى هؤلاء، من عشقناهم. لا لأن ذلك سيُشعرنا بالرضا عن أنفسنا بالضرورة، بقدر ما أنه يمنحنا إحساسًا بالأمان، نحن في أمَسّ الحاجة إليه كي نمضي قدمًا، دون النظر أسفل أقدامنا وحساب كل خطوة قبل أن نخطوها.

​جسرٌ قديم:

يوبِّخُ قوسَ قزح

لا تغترّ، يا ابني، بهذه الألوان

كنتُ أنا مثلك

مع الوقت وكشفنا عن دواخلنا بأريحية حين نطمئن، فنتخلى عن الرتوش التي اعتدنا التجمُّل خلفها، ينهدم إطار الصورة المثالية التي صنعها لنا الآخرون، وموقف بعد آخر وخلاف يلي خلاف، سرعان ما تصبح الصورة الملونة باهتةً، فإذا بنا وقد صرنا ظلالاً رمادية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، قبل أن نُتَّهم بأننا مارسنا الخداع والكذب أو في أفضل الأحوال تغيرنا وما عدنا نشبه ذواتنا المثالية الأولى.

ولأننا لسنا الصورة الأولى بكل ما بها من طاقة وعنفوان وأسطورة الإنسان الكامل بلا أخطاء، ولا الثانية بما فيها من تقليل واتهام وملام، إنما نحن صورة ثالثة تمامًا رُبما تأتي بين هذه وتلك أو لا. صورة أكثر عادية لكنها حقيقية وهذا يكفي، صورة يجب أن يكون مرجعها الأول والأخير ذواتنا الأصلية وليست المرآة القابعة في أعين الآخر.

قدمانِ تائهتانِ في التباسِ المسافة

ولا فُتاتَ خبزٍ في حبرِ الحكاية

إذا كنتم تابعتم في هذا الموسم الرمضاني مسلسل “لعبة النسيان”، ستعرفون الإشكالية التي وقعت بها بطلة العمل، وإذا كنتم لم تتابعوه دعوني أخبركم الحكاية باختصار. فأحداث المسلسل تمحورت حول “رقية”، الزوجة التي تدخل في غيبوبة إثر حادثٍ ما لمدة أربعة أشهر، وحين تفيق تُفاجأ بأنها تعاني فقد الذاكرة آخر ست سنوات بحياتها.

بالنسبة إلى “رقية” حياتها توقفت عند اللقطة التي أنجبت فيها ابنها الوحيد، الذكرى ربما الأسعد خلال زيجتها من الرجل الذي أحبته بشدة وعوضها هو عن وجع الماضي وآلام الفقد والفراق التي لازمتها وحاوطتها لسنوات. هذا هو ما تتذكره، لكنها حين تفيق وتبحث عن زوجها للاستناد إليه ومؤازرتها في ما تمر به، تُفاجأ بالآخرين يُخبرونها أنها تسببت بمقتله إثر خيانتها له مع رجل آخر.

كلِّ هذا النسيانِ في الأفقِ وبينَ اليديْن

كيفَ أفكّكُ رموزَ كنزيَ القديم؟

من تلك المرأة التي يُعاديها الجميع، تلك الخائنة التي اتشح قلبها بالسواد والقسوة حتى تسببت بالألم لأقرب الناس إليها؟ هكذا تتساءل البطلة رافضةً تصديق ما يحاول الآخرون وصمها به، فنفسها التي تتذكرها لا تشبه ولو من بعيد المرأة الأخرى التي يحكون عنها.

من هنا تبدأ رحلتها للبحث عن الحقيقة، الحقيقة التي هي نفسها لا تعرفها، ربما تكون مؤمنة بها في أعماق قلبها وتستشعرها بحدسها الأنثوي والفطري، لكنها لا تملك دليلاً واحدًا عليها، فكيف يمكنها الوصول؟ وبمن عساها تثق إذا أرادت فك رموز طريق العودة المُظلم؟ أسئلة كثيرة بلا إجابات تُهاجم البطلة، فيما يتولَّد عنها أسئلة أخرى تطرح نفسها على أذهان المشاهدين حلقة بعد أخرى.

ذاكرتي مدينةٌ تضجُّ بضَحِكِ السَّكارى

والجسورُ سجائرُ أدخِّنُها بشراهةٍ

لأقطعَ طريقَ العودةِ بالرماد

هل تمنيتم يومًا أن فقد الذاكرة آملين أن تنسوا فجأة كل الأوجاع التي تُثقل أرواحكم، فتتحررون في خطوة واحدة من لعنة “سيزيف” التي تعيشونها، وميراث القرارات الخاطئة وشلالات الندم التي تغرقون فيها كل ليلة قبل النوم؟ حسنًا، أيًا كانت إجاباتكم، أنا شخصيًا تملكتني هذه الرغبة مرارًا ولو على سبيل المزاح.

ظنًا مني أن فقد الذاكرة يمنح صاحبه بداية جديدة لم يبذل لأجلها شيئًا من روحه، أو يضطر في سبيلها اتخاذ قرارات صعبة، عليه أن يدفع ثمنها ويتحمل عواقبها. لكنني حلقة بعد أخرى ومع متابعتي للأحداث اكتشفت أن فقد الذاكرة لعنة لم أكن أعرف عنها شيئًا، بل تضع صاحبها أمام تحديات عنيفة وغير متوقعة.

كبيتٍ على بركانٍ

أعيدُ بناءَ حياتي بأعقابِ الشموع

فـ”رقية” بطلة “لعبة النسيان” تواجه مصيرها بشجاعة ليست هينة على الإطلاق، إذ ترفض الانهزام أمام صورتها في أعين الآخرين، وتقرر الانتصار لنفسها ولو تطلَّب منها ذلك مواجهة أعظم مخاوفها، تقف وحيدة أمام جبروت من حولها.. هؤلاء من يُشهرون بنادق ذاكرتهم العامرة بالرصاص بوجه ذاكرتها الخاوية.

يُخبرونها عن كل مساوئها بأعينهم مُطالبينها بالاستسلام والاعتذار والندم على كل ما اقترفته تلك المرأة الأخرى، التي لا تتذكر عنها شيئًا. لكنها، بشجاعة تظل تصرخ تارةً وتُعلنها بهدوء تارةً أخرى أنها لا تُصدقهم، وأنهم وإن نصبوا أنفسهم قضاة وجلادين فهذا لا يعني كونهم الأعلم بالحقيقة أو الأحق بقول الكلمة الأخيرة والفاصلة في حكايتها.

أهذه وجوهُنا؟

قد يكون مسلسل “لعبة النسيان” مُخيبًا للآمال فنيًا، لأسباب عديدة ليس هذا هو المجال المناسب لذكرها، لكنه على المستوى الإنساني يمنحنا درسًا مُلهمًا في قراءة أنفسنا، وضرورة عدم استسلامنا للصور التي تُمليها علينا مرايا الآخرين وإن كانوا كثيرين.

فنحن الأدرى بدواخلنا ودوافعنا ومُبررات أفعالنا، حتى ولو كانت خاطئة، ما يراه الآخرون ويعكسونه بالتبعية مجرد ملمح عابر من ملامحنا، زاوية واحدة يرون منها الحكاية، بينما ينشغلون هم أنفسهم بممارسة حكاياتهم الخاصة. وهو ما ينطبق على الصور سواء كانت مثالية أو قبيحة، فالآخر يظل بما يراه مجرد عابر سبيل في حياتنا، أيًا كانت أهميته أو المساحة التي يحتلها من تاريخنا الشخصي.

..

*الاقتباسات من أشعار لسوزان عليوان

اقرأ أيضًا: مسلسلات رمضان 2020: افتقاد الحب الذي دمر “ريهام” و”فرح”

المقالة السابقةغريزة الأمومة: عندما منحني طفلي الحياة
المقالة القادمةلنخبر بعضنا أننا رائعات
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا