لكل “لا” ثمنها.. فكوني مستعدة للدفع

1008

تضطرُّكِ الحياة دائمًا لاتخاذ موقف واتجاه. شرق أو غرب، مع أو ضد، نعم أو لا. ولكل نعم ثمنها الفادح، ولكل لا ثمنها الأفدح. إذًا لنسأل السؤال الهام: ما الذي يحدث لامرأة قالت لا؟ وما الذي يحدث عندما لا تقولها؟

عشان تبقي تقولي لأ

في حياتي لم أعتد أبدًا أن أقول نعم. لم أوافق وأسير مع باقي السائرات حولي. دائمًا ما كنت أقول لا، وكان لها ثمن كبير دفعته عن طيب خاطر. درست في مدارس حكومية، ولكن ظل في نفسي رغبة وتوق للمزيد من العلم. لم أكتفِ بالكتب الدراسية والمناهج المحشوة. كنت أريد أكثر. أريد أن أعرف أكثر. أتعلم أكثر. أفهم أكثر. اشتريت بكل مصروفي الصغير كتبا وقرأت. وعكس التلاميذ في سني الذين كانوا يقرؤون في إجازة الصيف على سبيل تمرير الوقت.

كنت أنا أقرأ في كل وقت. في الصيف والشتاء. في طابور الصباح. بين الحصص. أثناء الفسحة. لا أمشي في طرقات المدرسة دون كتاب. انعكس هذا على تحصيلي الدراسي وأدائي في المدرسة. فكنت الطفلة الأعجوبة التي تتحدث في أمور تفوق سنها وتسأل وتناقش الكبار. لا أعلم من أطلق عليَّ اللقب على وجه الدقة. ولكن لقب “سقراط” ظل يلازمني طوال مرحلة دراستي في المدارس العامة. البعض كان يقوله بفخر كمدرس الدراسات الذي كان يراني فتاة مختلفة، ساقها الحظ إليه ليجرب معها أساليب مختلفة للتعليم. والبعض كان يسخر، كمدرس الرياضيات الذي كان يتعمد أن يختبرني في مسائل صعبة تفوق إدراكي أحيانًا، ليسخر ويقول “أومال سقراط على إيه بقى؟!”.

أما زميلات الفصل والمدرسة فكُنَّ يرفضنني جملة وتفصيلاً، خصوصًا وأنا لا أجيد لعب المسَّاكة والحجلة وكل الألعاب التي يمارسنها وقت الفسحة. كان اللقب يؤلمني. يشعرني بفارق مهول بيني وبين زميلاتي. فكان عليَّ أن أتنازل وأكون معهن، مثلهن. أو أن أنعزل وأكون نفسي. واخترت أن أتحمل لقبًا سخيفًا وأن أنعزل وأكون نفسي. وكان هذا ثمن أول “لا” قلتها في حياتي.

كم سنة من عمرك عليكِ أن تدفعينها عندما تقولين نعم بدلاً من لا؟!

بالطبع لم أسأل نفسي هذا السؤال عندما أنهيت الثانوية العامة. ربما لو كنت سألته لكنت قد وفرت على نفسي الكثير من الحيرة والتخبط والوقت الضائع. بعد أن أنهيت ثانويتي رغبت في الدراسة بمعهد السينما. ثارت ثائرة عائلتي واتهمونني بالجنون والفجور، وكل ما قد يخطر لكم ببال. أصروا أن أدرس بكلية الهندسة أو العلوم. رفضت أنا، فصار أمامي خياران، دراسة الأداب أو المحاسبة.

أصرت عائلتي على الآداب فكان اختياري اليائس دراسة المحاسبة. درست المحاسبة وتخرجت وعملت بالحسابات، من عام 2003 حتى 2013. عشر سنوات.. عقد كامل.. ثلث عمري تقريبًا مر وأنا أعمل عملاً أجيده لكني لا أجد به نفسي. ثلث عمري تقريبًا مر وأنا حبيسة مكتب وأرقام أجمعها وأطرحها وأحسب نتائج دائنها ومدينها. بينما أتساءل يوميًا من الدائن ومن المدين بحياتي؟ ثلث عمري مر وأنا أدفع ثمن تلك الـ لا التي لم أستطع قولها في وقتها.

مبتعلمش.. بغيره القلب مبيحلمش

بنفس الأحداث والترتيب والدقة أعيد تجربتي مرارًا وتكرارًا، وآمل بسذاجتي، أو ربما بغبائي، في الحصول على نتيجة مختلفة. وبالطبع لا تختلف النتيجة. بل تتكرر للمرة الثانية.. والثالثة. كان يمكن أن أقول لقلبي لا بعد المرة الأولى لكني -كالعادة- كنت أعلم ثمنها من ألم ووحدة وخسارة، فاخترت ألا أقولها لمرتين أخريين.

حاولت كثيرًا دفع صخرة صماء لا تتزحزح. كنت آمل أن يكون قلبي قويًا بما يكفى حتى أزيح الصخرة وأعيد للحياة مجراها الذي تحول. لم أتمكن من ردع قلبي ولم أستطع أن أقول له لا. لم أستطع أن أقول له هذا يكفي. لم أستطع أن أدفعه في اتجاه لم يرده. ضعفت أمام قلبي ولم أقل له لا، فدفعت ثمن الـ لا التي لم أقلها.

احترق قلبي حتى صار رمادًا. برد الرماد وتبدد منه ما تبدد. الآن أعيش بالباقي من قلب أسود.. محترق.. بارد.. متحجر، أقتسم معه الحزن فيزيد. أسامر معه الأرق فلا تنتهي الليالي.

ما الذي يحدث لحلم تأجل؟

أيجف مثل زبيب تحت الشمس أو يتقرح؟

هل تفوح رائحته كلحم فاسد؟

هل نجرجره كحمل ثقيل؟

هل يتفجر؟ – الشاعر لانجستون هيوز

لم أعتد تأجيل أحلامي قط. أحلم بشيء فأسخر كل طاقاتي لتحقيقه. تعلمت كيف ينعدم الفارق بين الرغبة في شيء والحصول عليه. حينما زهدت مكتبي والحسابات وجدت ملاذي في المطبخ. متران في مترين، تقبع بينها دنيتي وأحلامي وتحتوي على كل طاقاتي المتفجرة. بدأت الطبخ كمن يحتمي بجدار صلب لن يخذله أبدًا. تعلمت كيف أطبخ وتعلمت كالساحرة كيفية مزج النكهات. تعلمت كيف أختار المكونات وكيف ومتى أستخدم النار والحرارة والبرودة، لأُخرِج أقصى ما في المكون من نكهة، تتفجر فور ملامستها للساني، متحللة لعناصرها الأولية من حلاوة ومرارة وملوحة ومزازة.

في الطبخ قتلت شياطيني كلها. قتلت القلق، التوتر، الاكتئاب، الوحدة، الخوف، وكوابيسي الليلية المتكررة. وكلما قتلت واحدًا زادت رغبتي في تعلم المزيد. اشتريت كتبًا في الطبخ لأكبر شيفات العالم. قرأت وتعلمت وتدربت. حاربت بالعلم المزيد من الوحوش والشياطين التي تسكنني. وكلما شعرت أكثر بانتصاري زادت رغبتي في تعلم المزيد.

احترفت الطبخ حتى صرت كاتبة في المجال، وتقدمت حتى صارت لي وصفاتي الخاصة المنشورة باسمي. وكلما كنت أتقدم كنت أطمع في المزيد. قرأت عن فن تنسيق الطعام فهمت به حبًا. صار شغفي الجديد. قرأت في المجال الجديد ودرست وتعلمت وتدربت. تغيرت حياتي تمامًا منذ أن مسها الشغف الجديد. كأني وجدت نفسي الضائعة. كنت أعدو في طريقي كأني أعوض فيه ثلث عمري الذي أضعته على المكاتب بين المدين والدائن.

غيَّر الشغف بالتعلم حياتي مرة أخرى، وجدت عملاً جديدًا أحبه وأفخر به. أصبحت مطلوبة بالاسم لعملي المميز. استعدت شغفي وعرفت طريقي ولم يعد حلمي مؤجلاً. لم يتقرح ولم أجرجره خلفي كحمل ثقيل. كل هذا استعدته حينما قلت لا وقررت تغيير مصيري.

يا حبيبي نفسي أقولك ع اللي بيَّ.. بس خايف ييجي يوم وتلوم عليَّ *

هذه المرة لن أقول نعم. فأنا أتعلم من أخطائي، وما زال أثر النعمات الثلاث يكوي قلبي. لن أتحدث ولن أبوح بشيء. فقط أتساءل:

ليه قابلتك ليه؟!
ذنب قلبك إيه؟!
ليه قابلتك ليه؟!
ذنب قلبي إيه؟! *

وسأصمت وأدع الأيام تقوم بما يجب عليها القيام به. ستنسيني كل شيء.

دمعة جارجة
ولا فرحة
الفراق مكتوب علينا*

وعلينا أن نتعلم ذلك الدرس جيدًا.

*مقتطفات من أغنية “خايف” – كلمات سامح العجمي – لحن وغناء مصطفى قمر.

اقرأ أيضًا: عشان تبقي تقولي لأ أو You أو كيف تجعلك الميديا تتعاطف مع الجاني

المقالة السابقةاحتفل بكل يوم وعش ملء الحياة
المقالة القادمةنصائح سريعة لاجتياز عنق الزجاجة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا