فقه الخلاف: 5 قواعد لخلافات آمنة في العلاقات

1491

يُهيأ لي أحيانًا أن علاقاتنا الإنسانية على اختلافها كالحبال. تختلف هذه الحبال طولاً وقصرًا. بعضها يكون متينًا لا ينقطع بسهولة، ذات نسيج لا يذوب بفعل الزمان، وإنما تزداد قيمته مع الوقت، وبعضها يهترئ بسهولة، لا بمرور الزمان فحسب وإنما مع أول شد لأطراف خيوط الحبل. وفي علاقاتنا التي أتخيلها كالحبال أتصور دومًا أن لا وسيلة أفضل من الخلاف لاختبار متانة الحبل الذي تُنسَج منه العلاقة سواء كانت بصديق مقرب أو مع الشريك. وعلى مر سنوات عمري كانت بعض الحبال تطوق رقبتي، وبعضها الآخر كانت بمثابة الطوق الذي تمسك به يدي ليسحبني خارج دوامات الغرق إلى بر آمن. وبين هذه وتلك تشكل في ذهني فقه الخلاف السوي الذي كان يهديني تصنيفًا صحيحًا لعلاقاتي بالمقربين. أو بالأحرى عرفت من خلافاتي مع الآخرين مَن يمكن تصنيفهم بالمقربين، ومن ينبغي أن يبقى القلب على مسافة منهم فلا يشقى بصحبتهم. وحده الخلاف كان الحد الفاصل بين من يأمنهم القلب، ومَن ينبغي ألا يكون لهم مكانًا بالقلب.

فقه الخلاف: ملامح الخلاف الآمن

لا تخف من وقوع خلاف

ربما أحد تصوراتي الساذجة مسبقًا عن العلاقات المثالية خلوها من الخلافات. والواقع أن الانسجام والتناغم الفكري مع المقربين طوال الوقت يبدو أمرًا أفلاطونيًا جدًا، ولا وجود له في أقرب العلاقات إلى المثالية. فإن كان بإمكاننا تصنيف علاقة ما بأنها تبدو مثالية وسعيدة، فستكون بلا شك العلاقات التي يجيد أطرافها إدارة الخلاف، لا العلاقات التي لا تشهد خلافات، لأنه إن وُجدت علاقة كذلك فهي قطعًا علاقة ميتة ومنتهية. تعلمت بمرور الوقت ألا أهلع إن لاح خلاف في الأفق مع المقربين، وأن أسعى فقط وراء ما يضمن مرور العاصفة بسلام.

عبّر عما يزعجك بوضوح

إذا كان من الممكن صياغة قاعدة محددة تعلمتها في إدارة الخلاف مع دوائري المقربة، ستكون “كن واضحًا في شرح ما يزعجك”، هكذا ببساطة. واحدة من المهارات التي ما زلت أحاول تطويرها في نفسي -وأظنني أبلى فيها حسنًا إلى الآن- تعبيري الواضح عما يزعجني من الآخرين، لأن الوضوح قد يختصر أوقاتًا هائلة تُبدَد في انتظار أن يقرأ الآخرون أفكارك. ربما استهلكت مسبقًا قدرًا لا بأس به من طاقتي نتيجة فهمي الخاطئ لمعنى التغافل. أو لإساءة فهم الآخرين لتغافلي الذي أُخذ مع الوقت كحق مكتسب. هي تتغافل إذًا فهي غير منزعجة. هي غير منزعجة إذًا فهي غير رافضة للفعل، فلنكرره إذًا!

حسمت سنوات العمر وما تضمنته من خلافات مع المقربين أن النتيجة الحتمية للتغافل عما يزعج حقًا لن تكن التقدير، وإنما سيكون من نصيبك الإصابة باحتراق نفسي صامت لفترة، يعقبه انفجار مدوٍّ في فترات لاحقة. لذا، ففى فقه الخلاف ينبغي ألا يكون التغافل إلا في صغائر الأمور التي لا تتسلل معها للقلب غصة يصعب مداواتها. لأن ما يتسبب في ألم حقيقي يصعب تجاوزه، يعد تغافله مجرد إرجاء لانفجار آتٍ لا محالة.

الصمت وقت الغضب فضيلة

يٌقال “وقت غضبك.. اصمت”، وفي خلافاتي مع المقربين اكتشفت أنها نصيحة ذهبية لكل العلاقات التي يود المرء الحفاظ عليها. والصمت وقت الغضب لا يتعارض على الإطلاق مع ضرورة التعبير عما يزعجنا. لكن الفكرة كلها تكمن في اختيار التوقيت المناسب لمناقشة ما يكدر صفو العلاقة.

ببعض التدقيق فيما مضى، وجدت أن ثمة علاقات مهمة نجت من التآكل بنار الغضب، لأنني فقط ألجمت غضبي عند تأجج الخلاف. صحيح لا يبدو الأمر بهذه السهولة لأن لا شيء أكثر إغراءً للنفس من إيلام الآخرين كما آلمونا. الانتقام يبدو براقًا للغاية عند الغضب، لكنه بريق زائف. وإن فقد المرء رحمته بالآخر في وقت الخلاف وسمح لنفسه بإلحاق الأذى به، فقدت العلاقة ركنًا أصيلاً في نجاح استمراريتها، لأنها ستتحول حينئذِ لساحة حرب، لا واحة أمان. وإن تحول الخلاف مع الأحباب لعراك ينهزم الجميع. فلا انتصارات لأي طرف في معارك كتلك.

كن نبيلاً وقت الخلاف

من وحي خلافاتي مع المقربين، وجدت أن النُبل وقت الخلاف أعظم ما قد يجده المرء في علاقاته الأقرب والأهم، لأنك حينئذ لن تجد صديقًا أو شريكًا متفهمًا فحسب، وإنما ستجد ما هو أجمل: الشعور بالأمان. تأمن ألا يحط الآخر من قدرك بدعوى غضبه منك، وعدم تحكمه في انفعالاته. تأمن ألأ تسمع ما يشعرك بالإهانة. ألا تتم معايرتك بخطأ سابق أو بنقصِ ما بك.

أذكر أنني طالعت ذات يوم منشورًا يتساءل صاحبه إن كنت شعورًا فما تحب أن تكون من المشاعر المختلفة؟ ظننت وقتها أنني لا أحب أكثر من الونس والحنان، لأنها مشاعر تحيط الآخرين بالدفء وتبدد شعورهم بالقلق والوحدة. ثم تبدلت إجابتي على السؤال مع الوقت. لو قُدِّر لي أن أكون شعورًا سأختار الأمان بلا شك. فقد آتنس بك وأشعر بحنو روحك ما خلت علاقتنا من الخلاف، ثم أجد وحشًا كاسرًا يهدد أماني عند غضبه أو خلافه معي. سأختار الأمان بلا تردد، لأن لا أجمل من اليقين بأنه حتى في أوج الخلاف لن تشعر بالتهديد، وأنك ستجد مظلة آمنة تحتمي تحتها لحين عبور عاصفة التوتر التي ضربت علاقتك بالمقربين. جميل أن تجد الأمان، وأن تكن أنت أيضًا مصدرًا له لأحبابك، بأن تكون حصنهم الآمن عند الخلاف. ربما لذلك قال أحد الحكماء:

من غضب منك ولم يفعل فيك شرًا، اختره صاحبًا لك

تجاوز الخلاف ولكن لا تنبذه وراء ظهرك

انتهى الخلاف؟ إذًا فلنطو صفحته ولا نشهره في وجه الأحباب من وقت لآخر، لأذكرهم بأخطاء سابقة كل حين. هذا ما تعلمته من خلافاتي مع المقربين. لكنني في الوقت نفسه تعلمت ألا أغلق صفحة دون أن أستخلص منها دروسًا مستفادة، يمكن استثمارها مستقبلًا لتقوية العلاقات. فمع كل خلاف نقترب أكثر من فهم الآخرين بصورة أفضل. نصبح أكثر تمييزًا لما يغضبهم منا ويغضبنا منهم. صحيح أن بعض الدروس نتعلمها بالطريقة الصعبة وببعض الألم، لكنها تظل رغم ذلك دروسًا. ففي النهاية سيزول الألم وتبقى الحكمة من الموقف. سينتهي الخلاف ويبقى الأحباب، طالما كان خلافنا معهم نبيلاً وآمنًا. وطالما كنا نسعى في خلافاتنا معهم لإيجاد حل، لا للانتصار عليهم.

اقرأ أيضًا: التخلص من العلاقات المؤذية: طريق الخروج ورحلة التعافي

المقالة السابقةأنا ضفدع: عن الحدود والحرية وأشياء أخرى
المقالة القادمة10 نصائح حتى لا يتحول ملل كورونا إلى اكتئاب

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا