كرب ما بعد الصدمة: تجربة شخصية للبحث عن الضوء

1386

عند حدوث كارثة طبيعية، أو مرض أو وفاة أو تعنيف، يعتبر ما يلي هذا حزنًا، مجرد حزن ورد فعل طبيعي على الحدث، وتقاس قوتك بمقدار قدرتك على مداراة هذا الحزن وعدم الانغماس فيه. وعندما تعرب عن حزنك، أول كلمة ستسمعها هي “خليك قوي وجامد كده متبقاش ضعيف”، حيث دائمًا ما يعتبر المجتمع مظاهر الألم النفسي ضعفًا. كانت هذه هي الأجواء التي عانيت فيها من كرب ما بعد الصدمة PTSD للمرة الأولى. واليوم أحكي تجربة شخصية مع الصدمات.

تجربة شخصية ثلاثية المراحل

اليوم لن أتكلم من منطلق الدراسات والمصطلحات والطرف الأكاديمي في الموضوع، بل سأتحدث من طرف شخص يتعافى حاليًا من كرب ما بعد الصدمة، للمرة الثالثة خلال 40 عامًا.

سأتحدث عن شعور تخيلت في لحظة ما أنه لن يزول، وأنني سأبقى في هذا الألم إلى الأبد، ولكن دعني أُبشِّرك وأُبشِّر نفسي أنه قد زال، فلقد مررت بالأمر مرة وزال، وثانية كانت الأسوء وزال، وحاليًا في مرحلة التعافي لثالث مرة، حيث أؤكد لنفسي ولك أنه سيزول.

لذا إذا كنت تعاني كرب ما بعد الصدمة وتشعر بأن حياتك تدور في دوامته الساحقة، قف لحظة الآن وأخبر نفسك أنه رغم سوء هذه المشاعر الآن لكنك قريبًا لن تشعر بها، وإن كنت تعيش مع شخص يعاني كرب ما بعد صدمة فدعني أُقرِّب الأمور لذهنك، من خلال التجربة الشخصية، بعيدًا عن الأمور النظرية.

لا يجب أن يكون الحدث جللاً.. يكفي أن تعتبره كذلك

البعض قد يعتبر أن جملة كرب ما بعد الصدمة يجب أن تصاحب أحداثًا شديدة المأساوية، والواقع أن هذا تصور خاطئ، فقوة الحدث من المنظور العام لا تعني الكثير، أمام قوته في التأثير على نفسيتك، فقد يكون حدثًا محدودًا وصدمة يمكن أن يتخطاها كثيرون دون مشكلات، ولكن تركيبتك النفسية تسبب لك كرب ما بعد الصدمة. العبرة بكيفية تفاعلك مع هذه الصدمة، وكيفية تأثيرها على نفسك، لا بمدى قوتها في المطلق.

سقوط مبنى المدرسة: أول صدمة

هل يمكن أن يصاب الشخص بكرب ما بعد الصدمة أكثر من مرة؟ الواقع أن الشخص سواء أثناء معاناته من كرب ما بعد الصدمة أو عندما يتخطى وتجاوز أعراضه، يمكن أن تحفزها أحداث أخرى لمرة ثانية أو عدة مرات. يطلق على المرض في هذه الحالة Complex PTSD وهو ما عانيته، وهو لا يفرق كثيرًا عن من يعاني من المرض لأول مرة، فالأعراض واحدة، فقط البعض يمكن أن يتكرر له حدوثها.

المرة الأولى التي عانيت فيها من كرب ما بعد الصدمة، ولم يتم تشخيصه إلا بعد 11 عامًا أثناء علاجي في المرة الثانية، كانت أيام الزلزال، شابة صغيرة تعرضت للزلزال مثل ملايين آخرين، بالتأكيد عانى كثير منهم، تهدمت مدرستي جزئيًا أثناء وجودنا بها، وقد أظهرت مع سني الصغيرة وقتها صلابة في موقع الحدث.

كنت الأكثر تماسكًا في الموقف، ثم في المساء انهرت. لم يشخصني أحد بكرب ما بعد الصدمة، فلقد اعتُبِر خوفًا طبيعيًا مما حدث، والكل كان يتعجب كيف كنت شديدة التماسك في البداية ثم يتحول الأمر لمثل هذا الضعف، الارتعاب عند سماع كلمة زلزال من الأساس. الكوابيس المتكررة بسقوط المدرسة كاملة في الحلم، ضيق التنفس والقلق وشريط أحداث الزلزال والصراخ تتكرر مرارًا، الأرق وعدم القدرة على النوم قلقًا.

استمرت الأعراض لفترة قد تصل إلى 6 أشهر، من بعض الكوابيس والقلق عند حدوث أي هزة أرضية تالية. ولكنها كانت في أشد حالاتها في الشهرين الأوليين. ولكن تقديري الشخصي أن حالتي كانت بسيطة رغم كل شيء. فبعد أسابيع لم تكن الأعراض تؤثر على نمط حياتي في كل وقت، ورغم عدم تشخيصي أو حصولي على مساعدة متخصصة، فإن الدعم الأسري كان كافيًا لتخطي الأزمة.

بعد سقوط أبي.. عجزت يدي عن اختراق صدري

إن كانت المرة الأولى وصفت بكونها بسيطة الأعراض، ولم أعرف عن كنهها الحقيقي إلا في جلساتي مع الطبيبة النفسية وقت علاج كرب ما بعد الصدمة للمرة الثانية. فالحقيقة أنه يمكنني حاليًا أن أؤكد أن ما شعرت به في المرة الأولى كان صدمة بسيطة الأعراض، وفقًا لمقارنتها بالمرة الثانية، ففي صباح كان عاديًا تمامًا وأنا أتحدث مع والدي، وفي منتصف جملة يوجهها لي سقط ميتًا، بلا مقدمات، كل وزن جسده سقط ليصطدم رأسه بالمنضدة، وأنا واقفة مصدومة بين سقوطه والدماء التي تزحف، ومحاولاتي لإنعاشه لتأكدي أنه فارق الحياة.

اتخذت خيارات في هذه اللحظة للتعامل مع الموقف، ظلت بعد ذلك تتكرر وكأنها تصدمني كلما جرؤت على إغماض عيني، ليجتاحني شعور مهول برغبتي في أن تكون ليدي قدرات خاصة تستطيع اختراق قفصي الصدري والوصول لقلبي والضغط عليه لتهدئته، وهذه ليست صيغة بلاغة، بل شعور حقيقي تمامًا مثل شعورك بالحكة مثلاً، حيث شعور ممض لا يجد عقلك مهربًا منه، ولكن لا يمكنك تحقيقه، فكيف ليدك أن تستطيع الضغط على قلبك لتهدئ من روعه، ومهما حاولت الضغط على ضلوعك لمحاولة الاقتراب من التأثير المرغوب فلا شيء يضاهي ما ينسجه عقلك عن حاجتك للضغط على قلبك ذاته، لعله يرحمك قليلاً.

اقرأ أيضًا: بعد رحيل الأحباب: كيف شكلتني تجارب الفقد

تكرار المشهد بالتفاصيل والمشاعر

من أكثر الأعراض إزعاجًا خصوصًا في الأشهر الأولى، هي تكرار للحدث أو أجزاء منه. عندما أغمض عيني لا أرى إلا سقوط والدي يتكرر، وتتكرر معه نفس المشاعر، نفس الصدمة، والشعور المرعب من تساؤل: هل سأعيش باقي حياتي لأرى هذا المشهد يتكرر؟

أول شيء يبعث الطمأنينة داخلك هو عندما يؤكد لك الطبيب –ودعني أقوم بهذا الدور عن تجربة الآن- أن هذا الشعور لن يلازمك وسينتهي. قبل زيارتي للطبيب، كان الشعور مضاعفًا، نظرًا لكونه دائمًا متلازمًا مع الرعب من ديمومته، من أنه عرض لن ينتهي، هذا الشعور بعد ذلك أًصبح أقل رعبًا عندما أخذت في كل مرة تذكير نفسي بصوت مسموع لي، مرددة هذا المشهد سينتهي، ستأتي لحظة ستصبح معها ملامح هذا المشهد ضبابية، بل ستأتي لحظة سأضغط جفوني بشدة، لا لتشتيت المشهد ولكن كي أحاول استعادة تفاصيله ولن أستطيع. وهذا ما حدث، فالتفاصيل الدقيقة، الصوت والألوان والشعور الجارف انتهت.

اقرأ أيضًا: عن أعراض كرب ما بعد الصدمة: هل نحن كما نبدو عليه حقًا؟

ذات يوم يعود النور

الحقيقة أنني ذات يوم، بعد عام، فوجئت أن الدنيا أصبحت أكثر إضاءة، مرة أخرى، حقيقة لا مجاز. طوال العام ونيف كان هناك شعور طاغٍ بأن الحياة إضاءتها قد خفتت، كل الموجودات تعاني درجة من الضبابية، هناك جزء من عقلي لا يتفاعل مع ما يحدث في اللحظة الحالية، بل يدور في لحظة الصدمة، وكأن عقلي دائمًا مشغول، وكأن هناك خلفية لحياتي تتمثل في تفاصيل ما حدث، تمنعني دائمًا عن التركيز.

من العبقري الذي وصف هذا الشعور كأنك تضع رأسك في دلو ماء وعيناك مفتوحتان، أن ترى وتسمع، ولكن رؤية مشوشة، وتركيز مشوش وسمع كأنه يأتي من بعيد.

عندما تَخرج رأسك من تحت الماء، ستفاجأ بوضوح الموجودات التي بهتت طوال الشهور السابقة. لو جربت سابقًا انسداد أذنك حتى تعتاد على الانسداد وتشعر أن هذه هي الطبقة الطبيعية للأصوات، ثم فجأة يزول الانسداد وتجد كل شيء مسموع بشكل أوضح، هو نفس الشعور، فجأة ستكتشف أنك منذ أيام، منذ أسابيع تعيش في عالم مضيء، ستفاجأ بأن رأسك مع الوقت لم تعد أسفل الماء.

وهو شعور لا أعتقد أن هناك شعورًا يضاهيه في الكون. احتفظ بذكرى مشاعرك في هذه الأيام، فهي مشاعر ربما لن تحظى بمثلها في حياتك.

اقرأ أيضًا: علاج كرب ما بعد الصدمة: نصائح وأماكن للدعم

محفزات نوبات القلق: الإضاءة والروائح وحتى الأكلات

من ألعن ما يصاحبك في هذه الرحلة المؤلمة من حياتك، هو الارتباط الشرطي، فهناك دائمًا أمور تعتبر محفزًا لنوبة هلع أو نوبة قلق، وهي النوبات التي لا تتركك تقريبًا.

فهناك إضاءات معينة كانت تحفز لديَّ نوبات الهلع بشدة، وإن تعرضت لها في أي مكان تبدأ على الفور ضربات قلبي في التصاعد وشعور الاختناق والضيق والرعب والقلق وعدم القدرة على البقاء ثابتة في مكان واحد. الشعور القهري بأن هذا لن ينتهي أبدًا، الرغبة في الهروب، ولكن إلى أين؟! أنا حبيسة هذا الجسد في هذا المكان في هذا الكون ولا خلاص!

حتى اللحظة لم أستطع مطلقًا الربط بين هذه الإضاءة وتحفيز نوبة الهلع، وكان التفسير الأقرب أنها إضاءة تشبه إضاءة لحظة الوفاة، وإن كان ما أتذكرة عنها يستبعد ذلك.

ليست الإضاءة فقط، بل التجربة علمتني أن بعض الكلمات قد تسبب حافزًا، فخلال رحلتي الثالثة الحالية لتعافي من كرب ما بعد الصدمة، اكتشفت أن تحفيز نوبة الهلع لدي يأتي مع كلمة محددة. بل بعض الأكلات أو الروائح يمكن أن تكون محفزًا مثاليًا لنوبة القلق أو الهلع، فإما ترتبط بلحظة الصدمة نفسها وإما لها مدلول ما في نفسك تجاه الحدث كله.

مرة أخرى دعني أخبرك وأُخبرني أن هذا سيزول، ربما كان آخر الأعراض رحيلاً للأسف، ربما تبقت بعض آثار منه حتى بعد تمام الشفاء، فما زلت حتى الآن لا أشعر بالراحة في ضوء معين، لم يعد يحفز نوبة هلع ولكنه أصبح ضوءًا كئيبًا بالنسبة لي. ما زالت بعض الروائح والأكلات تصيبني باختناق بسيط أو ضيق، وأنا أعلم سر هذا، لم تعد تعيق حياتي بالتأكيد، ولكنه عَرَض كما يبدو يبقى له أثر ما في النفس.

احتوِ نفسك إن لم تجد من يحتويك

من حسن حظي أنني أنتمي لأسرة متفتحة جهة الطب النفسي، متفهمة لمعاناة المريض، لذا خلال عام وعدة أشهر هي رحلتي من أعراض شديدة الحدة، وتناقصها تدريجيًا حتى انتهائنا، حيث تستطيع كل بضعة أشهر أن تقول أنا أفضل حالاً من الأشهر الثلاث السابقة، وكانت أسرتي وخصوصًا والدتي تدعمني بشدة، ولكن هناك جزءًا هامًا، هو دعمك لنفسك، أن تريد أن يذهب كل هذا، أن تأخذ القرار بأنني في النهاية سأكون أفضل، لأن الدعم الخارجي -ودعني أؤكد لك- لا يتوفر في كل الحالات، فلو لم تدعم نفسك من سيدعمك؟!

الثالثة سأتجاوزها

استطعت أن أتحدث عن تجربة كرب ما بعد الصدمة بعد وفاة والدي بأريحية، فهي تجربة تعافيت منها واستطعت لـ4 سنوات أن أعيش بلا أزمات بشكل حقيقي.

ولكن مع الصدمة الثالثة، وهي إصابة والدتي بسرطان الثدي، فدائمًا ما تكون والدتي هي السند. ففي المرتين السابقتين كانت تمثل الدعم الثابت لي، ولكن هذه المرة من الضروري صمودي أمامها هي شخصيًا، وقد كان هذا عاملاً أساسيًا في محاولات أن أحتوي نفسي، لأستطيع أن أحتويها في أن أتعلم كيف أكون من يحتوي نفسي.

قد لا يمكنني الحديث عن هذه المرحلة بأريحية، فلقد احتجت لأكثر من ربع ساعة أحوم حول اسم المرض لأكتبه، وها أنا أحاول مغالبة ضربات قلبي الشديدة، بعد أن استهلكت الكثير من أعصابي لأكتبه، ولكنني مع تعافي والدتي –الذي أتمنى أن يكون نهائيًا ودائمًا بأمر الله- أحاول أن أتعافى.

ولكن الأكيد أنني بعد عام تقريبًا أفضل، وأن كلي ثقة أنني بعد عدة أشهر قليلة سأستيقظ يومًا لأكتشف أن إضاءة الحياة قد تغيرت، وأن الحياة عادت منيرة مرة أخرى. ليست شعارات ولا مجرد كلمات للتحفيز، بل يقين كامل بأن كل هذا سيزول، لذا سيزول، وستأتي لحظة أستطيع أن أكتب عنه بلا ألم أو قلق أو ضربات قلب سريعة.

المقالة السابقةحكاية نغم
المقالة القادمةالنجاة من كرب ما بعد الصدمة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا