حكاية نغم

1130

بقلم: آية إبراهيم

قصة قصيرة جدًا..

جذبتنى ملامحها بشكل يثير التساؤل: لماذا هي تحديدًا؟

ربما كانت ملامحها عادية، ليست من ذوات الجمال التقليدي المعروف، لكن أقسم أنها كانت أجمل بالنسبة لي، الطفولة تبدو على وجهها. كانت أنيقة ببساطة دون تكلف، أثار انتباهي أنها لا تبالي بأي شخص حولها منذ بدأت الرحلة، كنت أشعر أنها في عالم غير عالمنا. مرة تبتسم فجأة دون داعٍ، ومرة أخرى تلمع عيناها بالدموع، ومرة يعلو صوتها مع الأغنية التي تنبعث من سماعة أذنها. لم أعرف تحديدًا على أي حالة كانت هي. كان الطريق طويل يكفيني من النظر إليها. بالتأكيد أننى كنت محظوظًا ذلك اليوم.

تستند برأسها على نافذة الأتوبيس وتنظر إلى الطريق بتأمل كأنها تعرفه جيدًا. حاولتُ أن ألفت انتباهها بشتى الطرق، لكن لم تلتفت ولم تنتبه حتى أنني أنظر إليها. كان رباط حذائها مفكوكًا من أول الطريق، فلجأت لأن ألفت نظرها لذلك، لوَّحت بيدي أمام عينها وأشرت إلى رباط الحذاء دون أن أتكلم، فنظرت إليه ورفعت وجهها نحوي مرة أخرى وابتسمت ولوَّحت بيدها أن لا مشكلة في ذلك. ابتسمت وعدت لتفكيري مرة أخرى.

هناك شيء ما لا أستطيع تفسيره، أستطيع فقط أن أقسم أني أعرفها، أو أنتمي إليها بشكل أو بآخر.. أين؟ ومتى؟ لا أدري!

كنا في آخر نهار يوم من أيام الشتاء الأولى، انقلب الجو فجأة وأوشك أن يمطر. فتحَت النافذة حتى كاد الهواء أن ُيطير شالها الصوفي الذي تضعه على كتفها، لكنها لا تبالي أيضًا، بدأ المطر في النزول، أخرجت يدها من النافذة وفردتها لتستمع بالمطر تمامًا مثلما يفعل الأطفال. ابتسامتها تزداد، تستنشق الهواء البارد بعمق وانتشاء، في تلك اللحظة فقط علمت أنها تحب الشتاء جدًا ووجدت مبررًا لابتسامتها أيضًا.

كنت مستمتعًا بشكل لم يحدث من قبل، وأنا أنظر إليها، وقررت أن أكسر الصمت، لأننا كنا اقتربنا من الوصول.

فقلت بصوت واضح: بتحبي الشتا؟

تمنيت بداخليي أن تجيب ببساطة كما فعلت أنا. نظرت إليّ في استغراب وابتسامة طفولية، فكررت: باين إنك بتحبي الشتا قوي.

ضحكت وكأنما أعجبها السؤال وقالت: إلا بحب الشتا! أنا مبحبش فصل من فصول السنة إلا الشتا. شايف الهوا حلو إزاي! ولا ريحة الجو ولا الهدوء، بلاش كل ده، أنا بحب الشتا عشان هو شبهي، شبه السكون اللي باين على وشي، رغم إن جوايا زحمة ودوشة.. الشتا بيسمحلي أنبسط بدون أسباب واضحة، ودي سعادة في حد ذاتها.

كنت أنظر إليها بابتسامة، سعيد لأنها أجابت سؤالي، لم أكن متأكدًا أنها أجابت من أجلي أم لأن السؤال أثار رغبتها في التعبير. بالتأكيد للسبب الثاني. لم تنظر في عيني وهي تجيب، كانت تنظر نحوي مرة ونحو النافذة مرة. وأكملت: بس يا سيدي، قولي إنت إزاي حد ميحبش الشتا!

عقد لسانى عن الكلام من فرط إعجابي بتعابير وجهها. لم أعرف ماذا أقول وعادت هي تنظر إلى نافذتها وعدت إلى شرودي مرة أخرى.

أنا لا أؤمن بالحب من أول نظرة إطلاقًا، لذا لن أقول إنّي أحببتها كان شيئًا آخر، ربما أحلى من الحب. شعور مؤقت بقي أثره طويلاً. أعرف أنني لن أنسى هذه الرحلة أبدًا. صحيح أنني أسافر كثيرًا لكن هذه المرة بالطبع مختلفة. حاولت أن أعرف عنها أي شيء، ربما أستطيع الوصول إليها بعد ذلك، ولكنها رفضت. احترمت رغبتها في ذلك. كنت فقط أود معرفة اسمها.

نزلَت في محطة تسبق المحطة التي سأنزل عندها. طليت من نافذتي بعدما نزلت وقلت وأنا أضحك: ولا حتى اسمك؟!

فضحكت بخفة وقالت: نغم. اسمي نغم. وأشارت بيدها سلامًا ومضت. وتركتني غارقًا في انشغالي بها. كان لوقع اسمها على قلبي شعور لطيف. قلت في نفسي: كل شيء فيها مميز، حتى اسمها. وكنتُ على يقين أني سألتقي بها مجددًا. أين؟ ومتى؟ لا أعرف!

حاولت أن أجد إجابة عن سؤالي لنفسي: لماذا أظن أني أعرفها من قبل رغم أنها أول مرة ألتقي بها؟ لم أجد تفسيرًا وأصابتني الدهشة من يقيني مرة ومن جهلي بالإجابة مرة أخرى.

سأعرف الإجابة. ربما ليس الآن لكن حتمًا سأعرفها.

(2)

أقرأ ما دونته في مذكراتي منذ أربع سنوات، كنت قد اعتدت أن أدون كل ما هو مميز في حياتي. هذه ليلة شتاء أخرى، أجلس في البلكونة استمتع بالمطر، وقد أحببته كثيرًا منذ ذلك اليوم. دخلت نغم وبيدها كوفية صوف لأضعها على رقبتي من البرد، وكانت قد غَزلتها لي بيدها، وهذا وحده كافٍ لتدفئتي.

قطعت شرودى قائلة: إيه اللي واخد عقلك؟

نظرتُ إلى السماء وكانت لا تزال تمطر، وأشرت إليها وقلت: لسة بتحبي الشتا يا نغم؟

ضحكت بصوت عالٍ وتذكرت لقاءنا الأول، من يومها تعلقت بالشتاء وبالمطر. وكيف لا وقد كانت الأمطار يومها تهبط ومعها حظي من الحياة؟! أطلعتها على مدونتي وبدأت تقرأ ما كتبته، وهي تمسك الأجندة بيد وتضع الأخرى فوق يدي تُدفئها.

لمعت عيناها وهي تقرأ، فقُلت: أي قدَر أجمل من أن جمعني الله بكِ بعد هذا اليوم؟

قالت: وأي يقين كنت عليه أنت؟ وكيف قدر الله اللقاء لنا وقد كان غير معقول أبدًا؟!

أستطيع أن أقول إن حياتي بدأت بعد لقائنا في هذا اليوم. الآن أنسى كل ما كان قبلها، وأردد: هذه هي اللحظة التي لم تعد الحياة بعدها كما كانت قبلها أبدًا.                

المقالة السابقةهل تسبب مواقع التواصل الاجتماعي التروما
المقالة القادمةكرب ما بعد الصدمة: تجربة شخصية للبحث عن الضوء
كلامنا ألوان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا