دروس عرفتها من تعلم الكروشيه

1321

فرحة طفولية، ما زالت تغمر قلبي الصغير مع نهاية كل عام، وأنا أشعر بتلك اللسعة الباردة المميزة لشهر ديسمبر، والتي تعلن قدوم الشتاء، استعدادًا للطقس الشهير في أي منزل مصري، حيث عمليات إدخال الملابس الصيفي، وإخراج الشتوي منها، بمصاحبة مشروب ساخن، وأغاني فيروز الهادئة. وفي آخر مرحلة، والتي تضمن فرش البطاطين الثقيلة، وقعت يدي على تلك البطانية، التي صنعتها بيدي من خيوط الكروشيه، بألوان السماء. أنهيتها منذ شهرين فقط. لم تكن كبيرة الحجم، ولكنها كانت كفيلة لتشعرني بالفخر، لأني استطعت تحقيق أحد أحلامي الصغيرة في تعلم الكروشيه. صمت قلبي قليلاً، ليخبرني أنني لا أستحق الإشادة وحدي، بل لـ”مروة”، التي ساعدتني على التعلم بعد أن كنت أظن أنني لن أستطيع فك شفرة ولوغاريتمات إبرة الكروشيه أبدًا.

“مروة” وغيرها .. شموس تنير طريق التعلم

تبدو “مروة” وأمثالها مثل قطعة شوكولاتة لشخص حزين. تسري في أوردته فتمنحه بعضًا من السعادة، أو مثل نسمات الأمل التي تهب فتخفف من حدة شمس اليأس الحارقة. نسمة تخبرنا بأننا ما دام في أجسادنا نفس يسري، فنحن قادرون على التعلم، وعلى الإبداع فيما نتعلمه وأن الحديث عن السن أو الوقت أو المال، كلها حجج لخوفنا الداخلي من التجارب الجديدة، أو حذر من التخلي عن “الكومفورت زوون”، أو حجج يستخدمها البعض لكسر ثقتنا بأنفسنا.

“مروة” لم تكن من هؤلاء، بل كانت كالشمس التي تطل على الجميع بطاقة من النشاط والحيوية، فتنشر عدوى ذلك النشاط سريعًا في المحيطين بها، عندما شاهدتها أول مروة وهي تغزل بخيوط الكروشيه أبديت إعجابي الشديد بما تفعله. صفقت بيدي في جذل أمام الألوان المغزولة برقة، ثم سرعان ما ارتسمت علامات الحزن على وجهي، لأخبرها أنني غير قادرة على تعلم الكروشيه، رغم أنه أحد أحلامي البسيطة، بل وعلى الرغم مع إتقان سيدات عائلتي كلهن لتلك المهارة، فإنني كنت الوحيدة بينهن الشاردة عن القطيع، فكنت أجد فيه صعوبة كبيرة، وكان الرد الوحيد من “مروة” وقتها أنني أستطيع، فقط أنا لا أدرك ذلك، وطلبت مني شراء خيوط على ذوقي، وجملة واحدة على لسانها “سيبي الباقي عليّ!”.

نجحت في تعلم الكروشيه بكوفيه بلون قوس قزح

ساعات طوال نجلس أنا و”مروة” بلا ذرة ملل واحدة من ناحيتها، وهي تشرح طريقة لفة الإبرة أمامي، بينما تبوء محاولاتي بالفشل. أتوقف وأنا أكاد أبكي، وأخبرها ببساطة أنني سأتخلى عن الأمر برمته. تستمر في تشجيعي، ولا تلتفت إلى كلمات الإحباط التي أقولها عن نفسي، بل تنهرني بكل بساطة، وتعاود تعليمي من جديد.

حتى نجحت، واستطعت صنع أول كوفية ملونة بألوان قوس قزح. هل يبدو الأمر كأنني سافرت إلى الفضاء، أو اكتشفت كوكبًا جديدًا في مجرة درب التبانة؟ رغم أنه مجرد تعلم نوع من أنواع الخياطة! نعم بدا الأمر بالنسبة لي كذلك وقتها، وما زال، أما مروة فبعد أن ساعدتني على إنهاء الكوفية ابتسمت، وهي تقول لي بنظرة ذات مغزى إن هذه البداية وليست النهاية، يجب أن أعلم ذلك، وأحاول. هززت رأسي نافية وأنا لا أصدقها، ولكنها كانت محقة، وكانت النتيجة 6 كوفيات، واثنين من المفارش، وبطانية أطفال.

ما تعلمته من “مروة” لم يكن الكروشيه فقط

الحقيقة أن ما علمتني “مروة” إياه لم يكن فقط غزل خطوط من الصوف في مصفوفات متساوية، بل كان أكبر من ذلك بكثير، ما يقارب الشهر قضيته مع “مروة”، ولكنه كان كالسنوات الضوئية في كم الدروس التي خرجت بها.

أول درس كان أن التعلم ليس مرتبطًا بالسن

“مروة” -للمصادفة- كانت أصغر منى بثلاث سنوات، ولكن قدرتها على الشرح والتشجيع على مواصلة التعلم، كانت بالنسبة لي أمرًا ملهمًا بحق، حيث إنني حاولت تعلم الكروشيه من سيدات كبيرات في العائلة، لكنهن كن غير قادرات على توصيل المعلومة لي بالشكل الذي يلائمني.

أما ثاني درس فهو قتلة الأحلام

هناك أشخاص يمكن أن نطلق عليهم قتلة الأحلام في الحياة، وهؤلاء علينا أن نتحاشاهم قدر الإمكان، فإذا صادفناهم في الشارع، فعلينا أن نسلك الشارع المقابل له مباشرة دون تفكير. وهم الأشخاص الذين يكسرون ثقتنا بأنفسنا، ويقررون بمنتهى الأريحية أننا لن نستطيع ملاحقة أحلامنا، أو تتبع شغفنا، أو أشخاص يحولون الحياة إلى نهر من المصاعب الذي سنغرق فيه لا محالة، ويصبون التشاؤم على قلوبنا وعقولنا، كأنهار لا تتوقف بلا كلمة تشجيع أو مواساة.

وفي المقابل، علينا أن نسعى بكل قوة أن نوجد في حياتنا هؤلاء ممن يؤمنون بنا، ممن يقدمون لنا الدعم غير المشروط، ممن يرون أن هناك ثغرة أمل وسط أحباطات الحياة، ممن يمنحونا التشجيع والسند لخوض الحروب لمواصلة أحلامنا، وتحقيق أنفسنا، حتى لو كانت أحلامًا مستحيلة أو صعبة. هؤلاء الذين يساعدوننا على تعلم الجديد، ويدفعوننا للتجربة، فتلك الشخصيات من أجلهم وجدت الحياة حقًا، ومن أجلهم تستقيم الحياة وتستمر في رحلة عطائها.

فخلال رحلة تعلم الكروشيه، كنت أفشل كثيرًا فى تنسيق الخيوط، حتى أصابني اليأس تمامًا، وأخبرت “مروة” في إحدى المرات أنني أشعر أني بليدة في الفهم، ولا فائدة من تعلمي، وكان ردها الوحيد أنني لا يصح أن أقول ذلك عن نفسي، بل فقط عليَّ المحاولة حتى أنجح. وللمصادفة كانت لي صديقة في نفس التوقيت أخبرها عن مشكلة أواجهها في إحدى الدورات التدريبية، وتفكيري في استكمال الدراسة في نفس المجال، لتبدأ في سلسلة من الكلام السلبي عن هذا النوع من الدراسة، وكم المعوقات التي سأواجهها، والفشل الذي قد أُصاب به، لأتأثر بكلامها وأتوقف عن مواصلة حلمي الذي طاردته أكثر من 5 سنوات.

أما الدرس الثالث فكان أن تعلم المهارة لا يكفي

أن أقول إنني تعلمت شيئًا وأجيده، هذه مرحلة يمر بها كل المبتدئين في التعلم، بل يجب الإبداع والتميز فيما تعلمته، وأن أطور نفسي تلقائيًا كل فترة. كان ذلك الدرس الذي التقطه من “مروة” ومن أمي بعد ذلك خلال رحلة تعلم الكروشيه. فبعد أن أنهيت أولى تجاربي في الكروشيه من خلال كوفية صغيرة، أخبرتني مروة أنني لا يجب أن أتوقف عند تلك المرحلة، بل عليَّ أن أصنع شيئًا يعبر عني، تظهر فيه شخصيتي. وعرضت عليَّ “مروة” وقتها فستانًا صنعته بيدها يدويًا، من القماش العادي المزركش، كانت ترتديه بسعادة طفلة في أول أيام العيد، مؤكدة أن صناعة قطعة من الملابس لنفسك، وعلى ذوقك أمر يشعر معه المرء بنوع خاص من السعادة والفخر، الذي يفوق شراء أغلى قطعة من الملابس من أرقى المحال، وأنها وصلت لتلك المرحلة بعد أن قررت أن تطور من نفسها، ولا تقتصر فقط على خيوط الكروشيه، وأن تسعى لتعلم الجديد.

الدرس الرابع اتباع القواعد

أهمية اتباع القواعد والدقة في التنفيذ. لا أخفي سرًّا على أحد، لست من المؤمنين بفكرة القواعد، والالتزام بها، فالحياة قائمة على الإبداع وكسر الروتين القاتل، ولكن من خلال دروس الكروشيه أدركت أن خروج واحد عن العدد الذي التزمت به في صناعة كوفيه أو مفرش أو أي شيء، معناه قطعة مهلهلة شكلها قبيح لا تسر الناظرين. في ظل أول قواعد فن الكروشيه صنع الجمال.

أما الدرس الخامس والأخير

الدرس الذي علمته لنفسي، أن أقوم بإهداء ما فعلته “مروة” معي لشخص آخر، فكما تدين تدان، ومن جمال الحياة، ولطف الله بنا، أننا يمكننا أن نرد دين التعلم بتعليم الآخرين، فنترك أثرًا في الحياة، يتذكره الآخرون بسعادة، ونتذكره نحن برضا. وكان الطريقة التي اهتديت إليها أن أهدي ثلاثة أشخاص يريدون تعلم الكروشيه إبرًا وخيوطًا، تشجيعًا لهم، وبالفعل نجحت مع اثنين وما زلت أنتظر الشخصية الثالثة.


لم يتوقف الأمر عند ذلك.. فهناك دروس تعلمتها من خيوط الكروشيه

– الكروشيه فن قائم على صنع الجمال من الخيوط الملونة بألوان الحياة. نغزل بهدوء ونحن نتحدث إلى الآخرين، أو نشاهد التلفاز، أو نفكر في معنى الحياة، فنتخلص من الضغوط، ونتعلم الصبر، ندرك معنى الدقة، الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، بل والدقيقة جدًا. ستدرك الأمر إذا جربت التخلص من خيط زائد صغير في قطعة كروشيه تصنعها.

– ولا تنتهي دروس الكروشيه، فمن خلاله نرى أهمية التجارب حتى لو كنا خائفين، نخلط ألوانًا ليس لها علاقة بعضها ببعض، فننتظر على أحر من الجمر انتهاء ما نصنعه لنرى النتيجة. نتعلم معنى الامتنان في أعين الآخرين، وهم يرتدون شيئًا من صنع أيدينا، حتى لو كانت شيئًا بسيطًا.

– ساعدني الكروشيه ليس فقط في تعلم دروس جديدة، ولكن في تخطي اكتئاب ما بعد الولادة. كان رفيقي الذي ساندني كثيرًا، لأتخطى تلك المرحلة الصعبة من حياتي، ومنحني كل تلك الدروس السابقة، لأشعر في النهاية وأنا أحمل تلك البطانية التي صنعتها من ألوان السماء، بالامتنان، تجاه “مروة” الصغيرة التي آمنت بقدرتي على التعلم.

اقرأ أيضًا: مانديلا ملونة كالحياة

المقالة السابقةالعلم والمعرفة في مقابل كليات القمة ومجموع الثانوية
المقالة القادمةأنا عايز أتشاف
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا