العلم والمعرفة في مقابل كليات القمة ومجموع الثانوية

1010

تبدأ قصتي مع التعلُّم متأخرة، فكل ما عرفت في سنين الدراسة الأولى هو الواجب الإلزامي على كل طفل ومراهق وشاب من مواد علمية في المدرسة أو مواد دينية في دور العبادة. سواء أردت أو لم أُرد، فالتعليم بفروعه ومجالاته المختلفة، الذي كان شبيهًا بالتلقين بشكل كبير، هو أقرب لكونه شرًّا لا بد منه، أو هكذا ظننت حينها. لا فرار من الجبر والنحو والفيزياء، ولا مجال للاكتفاء بالتعبير ومواطن الجمال والهندسة الفراغية والأحياء.

في محطة الانتقال من المدرسة إلى الكلية، منذ نحو 17 سنة، وصلت إلى ذروة انسحاقي وفشلي أمام شبح التعليم، الذي -مع الأسف- كان له قيمة مجتمعية كبيرة حينها، بل وكان يضرب أجيالاً من الشباب في مقتل، لمجرد عدم توافقهم مع النمط المتفق عليه من الأغلبية الساحقة. نمط تنحصر مفرداته غالبًا بين مصطلحين: كليَّات القمة و مجموع الثانوية العامة.

من المدرسة للكلية

مرت فترة الكلية مليئة بمحاولات عِدّة للتأقلم، ورسم الصورة المرجوة من التعليم، حتى نجحت في الحصول على شهادة علمية تسمى ليسانس الآداب، من قسم اللغة الفرنسية. مع الأسف لم تمت الشهادة لمعارفي الفعلية بالكثير، والأهم هو بُعدها كل البعد عن مجال عملي منذ ذلك الحين وحتى اليوم، بخلاف فقط شغفي بالكتابة، سواء باللغة العربية أو الإنجليزية. بحصولي على هذه الشهادة شعرت بشعورين متضاربين، الأول هو شعور الإنجاز العلمي الوهمي، والثاني كان شعور التوهان والعطش للمعنى، أو في كلمات أخرى الجوع للمعرفة، ولكن معرفة لا تشبه ما تعودت عليه سنين.

في خلال هذه الفترة وما بعدها ظَل التعلُّم المدفوع بالاحتياج هو بطل المرحلة، وشافي غليل نَهَمي للمعرفة، ولو بشكل جزئي. تعلمت قيادة السيارات، مدفوعة باحتياجي للاستقلال والحرية، وهاربة من معاناتي اليومية مع الشارع والمواصلات. تعلمت التعامل مع الكمبيوتر، الذي بالكاد استخدمته في المدرسة أو الجامعة، مدفوعة أيضًا باحتياجي للعمل وللاستقلال المادي والمعنوي، وذلك بالرغم من كرهي الشديد للتكنولوجيا حينها. بدأت القراءة في علم النفس، مدفوعة بثورتي على حقيقة وجود الألم في حياتي وحياة من أحب.

نعم، قد بدأت القصة مبنية فقط على مبدأ “الحاجة أم الاختراع”، لكنها مع الوقت تطورت لتصير هدفًا وشغفًا خاصًا، بل وملاذًا بعيدًا عن قسوة الأدوار الإلزامية، التي تتميز بنسبة أقل من الإبداع أو المساحة الحرة للاختيار. بدأت تنفتح عيناي على غنى التعلُّم وسحره، وقدراته الخارقة على تغييري بشكل جذري، وتغيير واقعي، حتى وإن بقيت الظروف الخارجية على نفس وضعها. تعلمت خلال رحلتي الخاصة الكثير وأشارك هنا بالبعض.

1. التعليم مقابل التعلُّم

قال الكاتب والمعلم الأمريكي جون تايلور جاتو:

عندما تؤخَذ الإرادة الحرة من التعلُّم فإن ذلك يحولها إلى تعليم

بحسب خبراتي التي لا تزال محدودة، أنا أستطيع أن أؤكد أن غالبية ما تعلمت بحق، وما أثَّر في، قد حصلت عليه أثناء التعلُّم الإرادي، وليس في التعليم النظامي. التعلُّم اختيار واعٍ يحمل داخله عزيمه وإصرارًا لتحقيق هدف محدد، حتى وإن كان صعبًا. أما التعليم إن كان إلزامًا من شخص أو سلطة خارجية، فغالبًا ما يكون حِملاً أو سببًا للإحباط وأحيانًا للفشل.

2. القراءة ليست حكرًا على المثقفين

قرأت مقولة للكاتب الأمريكي راي برادبري تقول:

أنا لا أؤمن بالكليات والجامعات، أنا أؤمن بالمكتبات، لأن معظم الطلاب لا يملكون أي أموال. عندما تخرجت من المدرسة الثانوية، كان ذلك خلال فترة الكساد ولم يكن لدينا أموال. لم أستطع الذهاب إلى الكلية، لذا ذهبت إلى المكتبة ثلاثة أيام في الأسبوع لمدة 10 سنوات

طالما كانت القراءة بالنسبة لي مرتبطة بالمواد العلمية الإجبارية، سواء في المدرسة أو في الكلية. من هنا كانت الصورة الذهنية عنها سلبية. حتى بدأت أقرأ في مجالات أحبها، مثل علم النفس، المشورة، تطوير الذات، وأيضًا الروايات. مع الوقت أصبحت القراءة هي المركب الذي يحملني إلى عوالم جديدة مبهرة أو حتى مقفرة، أصبحت خبراتي تتضاعف وتغنى، وكأني أضيف لعمري أعمارًا جديدة كل يوم. ليس هذا فقط، لكني بعد أن أصبحت القراءة عادة، أستطيع أن أختار القراءة في مجال لا يستهويني، إن احتجت لهذا، دون أن أشعر بالإكراه.

3. طريق التعلُّم يبدأ من الداخل

من أهم ما أدركت في رحلتي، هو أهمية نقطة البداية، والتي ساهمت وما زالت تساهم في تحضيري لآفاق من المعرفة لا حدود لها. بدأت أتعلمني وأفهم أفكاري ودوافعي ومشاعري، ما ساهم في تصحيح مفاهيم خاطئة حول قدرتي على التحصيل ومستوايَ العلمي، وكيف أكون قادرة على تغيير الواقع بخلق عادات جديدة.

ثاني خطوة كان تعلم الآخر وفهم اختلافه، فأنا والآخر أهم ركنين، إذا كنت أبحث عن السواء والنمو والعلاقات الصحية المثمرة. كتب الروائي باولو كويللو:

ربما لا تكون رحلة حياة حول أن تصبح شيئًا. ربما يكون الأمر يتعلق بما تنفضه عن كتفك، حتى تتمكن من أن تكون الشخص المفترض أن تكونه في المقام الأول

وقال أحدهم: “مثل الأطفال المصابين بصدمات نفسية، كنَّا نحلم دائمًا أن يأتي شخص وينقذنا. لم نتصور أبدًا بأننا سنكون نحن البالغون من ننقذ أنفسنا”.

4. الشغف ليس رفاهية

قال أحدهم: “الشغف هو ما تستمتع بفعله بأقل مجهود، وفي أقل وقت ممكن، ومهما تطلب من تضحيات”. ليس كل البشر محظوظين بظروف متوافقة مع مجال شغفهم، سواء الظروف الاجتماعية أو المادية أو حتى المعرفية. الكثيرون -خصوصًا في مجتمعات لا تُقَدر قيمة التفرد- لا يعلمون حتى إن كانوا يملكون ما يسمى بالشغف. في بحثي عن شغفي لم أجد إجابات قاطعة، لكني قطعًا وجدت إجابات وأدركت مرحلية الحياة وحتمية التغيير، فما يستهويني اليوم ليس بالضرورة هو ما سأجده يملأ صفحات يومياتي بعد خمس سنوات. لكن الأكيد أني أكون أفضل نسخة مني وأنا أتعلم أو أجرب أو حتى أعَلِّم ما يشغل عقلي وقلبي معًا.

5. حيث التعلُّم لا مجال للندم أو الفشل

كل خطوة جديدة أصبحت مغامرة مشوقة بالنسبة لي. في آخر ثلاث سنوات اشتركت في ورش عديدة من مجالات متنوعة، مثل التمثيل والكتابة والحكي والإخراج، وكتابة المقترحات، وورش عن تطوير الذات، وغيرها. لم تكن كل هذه الفرص مفيدة أو مناسبة لما أبحث عنه، ولكن الأكيد أنها غيَّرت داخلي شيئًا ولو صغيرًا. تعلمت أن أنتهز كل فرصة لأتعرف على آخرين، وأترك للأشخاص الجديدة أن تغير في كما أغير أنا فيهم. لم تعد هناك فرص ضائعة، بل كلها احتمالات أكبر للوصول.

أنظر اليوم إلى تلميذة الصف الثالث الابتدائي المدهوشة من خبر رسوبها في مادة العلوم، مما يعني خوضها لاختبار دور أغسطس. وما أقسى هذا الحدث عليها! حتى أن الأسرة حرصت على إخفاء هذا الخبر عن العائلة الأكبر والأصدقاء حتى يومنا هذا. من الممكن أن يكون هذا اليوم هو بداية وصمها لنفسها بالأقل قدرة في التعليم وفي التحصيل، وبالتالي الأقل عامةً. هي اليوم تكتب خبراتها عن التعلُّم، وتنفض رواسب أفكار بالية ربطتها في قالب الفشل لسنين طويلة، وتتعلم كل يوم أن تُحلِّق كما الفراشة الخارجة من ضيق شرنقتها إلى رحب الأفق المليء بالورود والألوان والحياة.

اقرأ أيضًا: ولنا في القراءة حياة

المقالة السابقةالزواج ليس نهاية طريق الأحلام
المقالة القادمةدروس عرفتها من تعلم الكروشيه

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا