بعد عامين من الأمومة: ما زالت لدي قائمة أمنيات

1043

أكتب تلك السطور لأعود إليها كلما باغتني إرهاق مفاجئ أو تعب أو إحساس بفقدان القيمة والذات وربما الأمل، مشاعر مضطربة تشعر بها حتمًا كل أم جديدة، تلك السطور دليل حي على أن إرهاق البدايات والليالي الأولى للصغار لا يدوم -حتى وإن اتخذ أشكالاً أخرى بعد ذلك- دليل على كون الليالي الطويلة تنتهي يومًا ما، فتصبح أهدأ، حيث يمكنك استغلال بعض الوقت بها لتصبح ملاذك الخاص، ربما يكون عُمر أمومتي عامين فقط، لكنني اختبرت فيهما مشاعر بعمري أكمله، وددت لو شاركت بها في السطور التالية.

يوم عادي يخبرني أن الصغيرة تكبر

الساعة الآن الحادية عشر مساءً بتوقيت القاهرة. نامت صغيرتي منذ ما يقارب ساعتين، كان يومًا شاقًا بالنسبة إلينا. هي مشت مسافة طويلة نسبيًا عما اعتادت عليه، ساعدنا على تجاوز تلك المسافة بعض الأغاني وتسمية كل ما يقابلنا من محال وأشجار، ومحاولة شرح الفارق بين ولد وعمو، وبنت وطنط وهكذا… أما أنا فكان اليوم ضاغطًا بالنسبة لي، لأن اليوم كان موعد الإعادة الخاص بها لدى الطبيبة. أكره مرض الصغيرة وقلة حيلتها التي تسبب لها المزاج السيئ وعجزي عن فعل شيء سوى محاولتي ملء جسدها بأدوية تساعدها على التعافي.
الأمر الوحيد الذي هون عليّ عند النزول للموعد هو ما طلبته ابنتي مني فجأة بأن أضع لها بعضًا من “الروج” كما قالت. ابتسمت وأنا أستشعر أنها كبرت بالفعل وبدأت ملامح شخصيتها في الوضوح.

منذ عامين تحديدًا كنت لا أستطيع أن أرتدي ملابسي وهي معي، كانت تريد دائمًا الالتصاق المباشر بي، لا تهدأ سوى بحملها وتهويدي المستمر لها. أتذكر ذات مرة أنني بكيت بشدة لأنني لا أستطيع لف حجابي من كثرة بكائها واضطراري لحملها.

 تحت تأثير المخدر

في شهري الأخير من الحمل اتخذت قرارًا بأخذ إجازة مفتوحة من العمل أخصائية تحاليل طبية، للاهتمام بشؤون القادمة الجديدة. وفي الرابع من مارس دخلت في أوجاع متتالية لساعات طويلة، في غرفة العمليات وبعد حقن بعض المنوم نمت لأستيقظ في الخامس من مارس وبجواري ابنتي، كانت تلك الدقائق التي استغرقها جسمي للتخلص من أثر المخدر هي دقائق الراحة الفعلية التي حصلت عليها في الأشهر الثلاثة بعدها.

الأشهر الثلاث الأولى: إرهاق بدني ونفسي

أضحك الآن وأنا أتذكر تلك الأشهر الثلاث، كانت الأصعب في حياتي دون منافس، فجأة كتلة لحمية صغيرة تمثل كائنًا حيًا بوزن لا يتجاوز ثلاثة كيلوجرامات، أنا المسؤولة عنها بشكل كامل. غياب أمي زاد الأمر سوءًا بالطبع، يحضرني تلك المرة التي هاتفت فيها زوجي أثناء وجوده في عمله لأخبره وأنا أبكي أنني فشلت في وضع أقماع شرجية لها.

كانت فترة لم أتوقع يومًا الخروج منها، وسط انعدام النوم وحب شديد للصغيرة ينعكس أثره وخزًا في القلب كلما فشلت في فهم أسباب بكائها، وترك العمل الذي بقيت فيه سنوات طوال، وانعدام الوقت لفعل أي شيء خاص بي. كانت تلك الحياة مسببًا رئيسيًا لضيقي وتعبي وإحساسي بالإرهاق النفسي المستمر، والأصعب كان اعتقادي أن تلك الفترة ستدوم للأبد.

اقرأ أيضًا: كل ما تحتاجين معرفته حول اكتئاب ما بعد الولادة

تحديات جديدة في الأمومة

الآن تغير الوضع بصورة كبيرة، بالطبع ما زال وجود طفلة بعمر عامين شيئًا مرهقًا جدًا، فمنذ أن تستيقظ إلى أن تنام ونحن في أنشطة وطلبات ومحاولة شرح للعيب والصح والخطأ، محاولات لمنعها من ترديد كلمة غير لائقة سمعتها بالصدفة، ومحاولات لمنعها من اللعب بالزيت وعلب الزبادي، ما زالت تحدث أشياء تفقدك أعصابك، لكن في الاتجاه الآخر عاد إليّ شعور بالقدرة على التفوق في عملي، وعلى قدرتي لإحداث إنجازات في المجال الذي أحب. عاد لي بعض الشعور بوجودي.

الخطوة الأولى: التفكير خارج الصندوق

سأعود للعمل.. أنا من الأشخاص الذين يحبون العمل، يحقق لي العمل نوعًا من الرضا الذاتي، ويساعدني على العطاء ويجدد لي الطاقة، فكانت الخطوة الأولى بالتفكير خارج الصندوق، لن أعمل بمجالي لأنني لن أتمكن من ترك صغيرة تأخذ غذائها الرئيسي مني، إذًا فلتكن الكتابة، أنا أكتب منذ سنوات بشكل غير مدفوع الأجر، عندما قررت العمل بالكتابة أرسلت إلى كل ما قابلني من مواقع، إلى أن تم قبولي بأحدها منذ عام تقريبًا، ولكن المقابل المادي وطريقة دفع المقابل المادي سيئة، لكنني قبلت بها لأنها ببساطة تمنح لي فرصًا للتعلم وتتيح لي الكتابة وتقوي من سيرتي الذاتية.

واصلت طرق الأبواب، إلى أن انضممت إلى “نون” في مارس الماضي، وأسعى الآن للانضمام لموقع آخر بعد أن أصقلت من قدراتي على الكتابة، وأتقنت مجالات لم أكتب بها من قبل، وأخذت بعضًا من ورش اللغة والنحو وكل ما يخص الكتابة.

اقرأ أيضًا: لولا الكتابة ما كنت هنا

خطوات بسيطة لتنظيم يومي مع طفلتي

تلك التغيرات ليست ببساطة السطور المكتوبة في الأعلى، بل أخذ الوضع شهورًا طويلة وليالي ثقيلة، بكاء مكتوم وفقد للأعصاب في كثير من الأوقات، فشل بعد محاولة ثم يأس من إحداث تغيير، ثم مفاجأة القدر بحدوثه. كانت سلسلة من القرارات التي اتخذتها لتساعدني للوصول لحالة من الرضا التي أشعر بها حاليًا وإن كنت أسعى لتحسينها.

بدأ الأمر بمحاولة تنظيم نوم الصغيرة، بدأ الأمر تدريجيًا، بداية من النوم فجرًا ثم تحسن الأمر للنوم قرب منتصف الليل، وبحلول العام ونصف كانت تنام في العاشرة تقريبًا. كانت ساعات نومها هي الملاذ لي لأجد نفسي. امتعنت عن تقديم المبررات لأحد، الناس بطبعهم يتحدثون طوال الوقت فيما يعلمون وما يجهلون. أسمع النصائح وأقرأ وأبحث، وبالنهاية أفعل ما يناسب قدراتي وحالتي، التي بالطبع لا أحد غيري يدري بها. تصالحت جدًا مع كون بعض التصرفات صحيحة لكنها لا تناسبني، وتسبب لي الضغط الشديد، وبأن امتناعي عنها ليس لكوني أمًا سيئة –كما كنت أشعر بالبداية- ولكن لكوني أمًا تحاول الحفاظ على حالتها النفسية مستقرة، لينعكس ذلك على تعاملي مع ابنتي.

حددت مواعيد لأعمال المنزل، مثلاً في البداية كانت أوقات نوم الصغيرة الليلية مستغلة دائمًا لأعمال المنزل، الآن غيرت الأمر قليلاً، فعلى الأقل بعض الأوقات للبيت ولكن لا بد من وقت لي. وبعض التغيرات اليومية في أنشطتي التي ساعدتني ككتابة يومية لقائمة المهام التي أود تنفيذها في اليوم التالي. اكتشفت عند الكتابة أنني بالفعل أقوم بالعديد من الأشياء التي كنت أقوم بها دون الانتباه لأنني أفعل شيئًا، فالاهتمام بمواعيد أدوية الصغيرة، وإخراج اللحم من الفريزر، ومتابعة فيديو جديد لصنع طعام صحي لابنتي يساعدها على تقبل الطعام، وترتيب لعبها، وإعداد نشاط جديد لها بالماء.. الكثير من الأشياء التي تمنحها الكتابة في قائمة اليوميات بُعدًا آخر يريني أنني أقوم بأشياء عديدة لا تستقيم الحياة بدونها، ليس كما رددت دائمًا بأنني لا أفعل شيئًا.

أنجز أشياء وأفشل في أخرى لكن ما زال لديّ قائمة أمنيات

في بداية العام كتبت قائمة طويلة من الأشياء التي أحب إنجازها، والآن بعد انتصاف العام أنظر إليها لأجد أنني حققت بعضها ولم أقدر على بعضها. ما زالت للأمومة أعباؤها التي تفاجئك دائمًا، ولكنني أصبحت أقل قسوة في الحكم على نفسي، فإن لم أستطع الحصول على كل الدورات التي وددت الانضمام إليها، لكنني تمكنت من تعليم ابنتي بعض الكلمات الجديدة، وقضيت معها بعض الأوقات التي سجلتها بقلبي.

في النصف الآخر من ذلك العام ما زلت أود تحقيق بعض الأشياء، وما زالت قائمة الأمنيات الخاصة بي يمكنني ملؤها بالعديد والعديد مما أنتوي فعله، حدث هذا كله بعد عامين من الأمومة، كان أقصى أمنية لديّ أن أنام لمدة ساعتين متواصلتين. وبالرغم من ثقل تلك الليالي، فإنني أجزم الآن أن الوقت يمر أسرع مما نتخيل، وأن تلك البقعة المرهقة التي تجد بها الأم نفسها بعد الولادة تتبدل وتصبح بعد فترة دائرة بها إرهاق طبيعي من وجود أطفال، لكنها مملوءة بحركات فجائية وقبلة على اليد و”ماما وحشتيني” عندما تغيبين لبعض الوقت و”ارقصي معايا” عندما تسمع أغنية تحبها مع أداء مذهل من حركات غير مفهومة. دائرة تستطيعين فيها أن تجدي وقتًا خاصًا بك مع وجود صديق أو صديقة يكبرون بك، وتستعيدين طفولتك معهم وتدركين متعة الأمومة رغم مشقتها، وأن الأمور تتحسن مع الوقت، لأن ببساطة الصغار يكبرون ليصحبوا شركاء حياة حقيقية.. ممتعة على قدر مشقتها.

اقرأ أيضًا: كيف تلتئم: محاولة إيمان مرسال لمواجهة أشباح الأمومة

المقالة السابقةبعد “زيزي” و”تيتو”: مشاهير يعانون من متلازمة ADHD
المقالة القادمةرسائل إلى نعيم: وما الحب إلا لك

1 تعليق

  1. Fantastic goods from you, man. I have understand your stuff previous to and you’re just too wonderful. I really like what you have acquired here, certainly like what you are saying and the way in which you say it. You make it entertaining and you still care for to keep it smart. I can’t wait to read far more from you. This is actually a terrific website.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا